2013/06/21
حاوره : أحمد عساف – البعث
يقترب من شخصية المبدع الشمولي، فهو الشاعر والمسرحي والكاتب السينمائي، يقول إن الشعر هو من يدفعه لكتابة نصه، سواء في المسرح أو السينما أو الصحافة الثقافية، حيث يجد صاحب "متسوّل الضوء" ضالته عبر أدوات تعبير متعددة، فيعكف على إخراج المسرح في عمله الجديد "ليلي داخلي" ويقدم ثلاثة سيناريوهات سينمائية تتعرض للحظة السورية الساخنة، أولها كان مع المخرج محمد ملص الذي كتب معه ســـيناريو فيلم "سلم إلى دمشق" وثانيها سيناريو "توتر عالي" الذي حققه سينمائياً المخرج مهند كلثوم، وثــالـثها سيناريو "ثلاث أرواح للوردة" الذي سيقوم باسل الخطيب بتحقيقه أوائل شهر أيلول القادم للمؤسسة العــامة للســينما..
البعث التقت الكاتب سامر محمد إسماعيل وكان الحوار الآتي:
< تقول إن الشعر هو من يدفعك لكتابة نصوصك في المسرح والسينما والنقد، كيف يحقق الشعر لك كل هذه الخيارات في الكتابة؟
<< الشعر هو المادة التي يتكون منها العالم، شخصياً لا أعرف مكاناً أو نصاً أو كائناً خارج الشعر، القصيدة ليست الشعر، مع أنها أحد أهم تجلياته، الكتابة بالمعنى الحقيقي للكلمة هي اكتشاف للشعري في كافة مستوياته، ولا يمكن أن يتحقق العالم في حضوره المادي، أو حتى في فكرته عن نفسه دون الشعر، ولهذا يمكن تحويل النص المسرحي أو السينمائي أو الأدبي من حالته السردية الأفقية إلى حالته الشعرية البحتة عندما تتوافر القدرة عند الكاتب على صياغة نصه بعيداً عن الأشكال الجاهزة لفيلم أو مسرحية أو قصة أدبية، يمكنه عندها تحقيق النص المتعدد في قراءاته، لا النص التقريري الجاف، فالنثر قادر على بلوغ مستويات هائلة عندما نرتفع به إلى الشعرية، وهذه الأخيرة لا تتحقق دون تأمل طويل لعلاقة الكائن البشري مع زمنه، ووعيه بأنه في النهاية مادة زمنية بحتة، فنحن كبشر زمنيون بالقدر الذي نستطيع فيه صياغة عالمنا المتخيل، عالمنا الداخلي العميق-إن وجد- هو في الأصل عالم شعري، عالم الواقع مدبب وكتيم وغير قابل للانصياع لرغبات المخيلة، في الشعر ينضج العالم ويتحول إلى مكان مسحور وغامض وسري.
< هــل أفهم من كــلامك أن العنصر الـــــدرامي يتــــراجع على حساب تقديم الشـــعر؟
<< أبداً الدراما يجب أن تكون حاضرة وبقوة، وأخذ النص السينمائي أو المسرحي أو الأدبي إلى مناخات شعرية لا يعني إطلاقاً التخلي عن الدراما، سوفوكليس وشكسبير وراسين وأحمد شوقي وممدوح عدوان كانوا شعراء، لكنهم كتبوا للمسرح أهم التراجيديات وأجمل النصوص، ما قصدته تماماً من المستويات الشعرية للنص ليس إلغاء درامية النص، لكن الدراما هنا يجب أن تكون قادرة على فهم الكائن الإنساني في كنه وجوده، في علاقتنا مع الآخر، ولهذا ليس المطلوب مسرحيات شعرية أو سينما شعرية، المطلوب هو قدرة النص على أن يكون جديداً في كل مرة تتم العودة إليه، وهذا بالضرورة يتطلب خبرة عالية في تطويع الحدث الدرامي بجعله حدثاً استثنائياً، حدثاً بعيداً عن المعالجة التلفزيونية، فالشخصيات المكتوبة للمسرح والسينما يجب أن تكون شخصيات استثنائية، لا مجرد أدوار وظائفية.
< مسرحية "ليلي داخلي" التي قمت بإعدادها عن نص غابرييل غارسيا ماركيز "خطبة لاذعة ضد رجل جالس" وتقوم بإخراجها حالياً لصالح المسرح القومي ثمة ملامسة للحظة السورية الساخنة، كيف عملت على تطويع نص ماركيز لصالح الراهن السوري؟ ولماذا؟
<< أعتقد أولاً أن المشكلة هي في الفكرة القديمة عن الكتابة المسرحية التي عززتها النصوص المترجمة بشكل سيىء ساهمت بنوع هذياني يلفه الهذر والاستهلال، البعض يظن أن كتابة مسرحية هي ذاتها كتابة نص مسرحي، وهذا سوء فهم مزمن، فكتابة المسرح تحتاج إلى دراية حقيقية بالفن المسرحي، لا كتابة نصوص أدبية جافة ومريضة، كتابة المسرح هي كتابة للخشبة، هي كتابة لا يمكن الخلاص لها إلا في زمن البروفة التي أقوم مع فرق العمل على إنجازها على خشبة مسرح القباني، زمن التخلص من النبرة الأدبية التي لا تمت للفن المسرحي بصلة، ولهذا تجد أن سعد الله ونوس مثلاً لم يكن يمانع في تعريض نصه للكثير من التعديلات وإعدادات المخرج وفريق العمل، النص المسرحي الأدبي لا علاقة له بنص الكتابة للممثل، هذا شيء آخر تماماً، ولهذا نحتاج اليوم في مسرحنا العربي إلى ما يشبه ورشات إبداعية، إلى فرق مسرحية تعمل على تطوير مسوداتها للانتقال من الصيغة شبه الأدبية إلى تقديم نصوص ذات حمولات إخراجية حقيقية، فالنص المسرحي هو قبل كل شيء تصور دقيق للأفعال وللشخصيات وللفضاء، يتم تطويره من الكتابة الأدبية الخرساء إلى مادة درامية تضج بالصراع والحركة، حيث يساهم في ذلك كامل فريق العمل وفق مبدأ التأمل الجماعي نحو "الانعتاق من الالتصاق الأحمق بالنص" كما يسميها أنطونان آرتو.
في "ليلي داخلي" كما شاهدت البروفة والعرض نقوم بإنجاز نص الراهن السوري عبر مسرحية ماركيز، النص الذي كتبه صاحب "مئة عام من العزلة" هو النص المسرحي الوحيد الذي أنجزه ماركيز للخشبة، لكنه نص رائع وخاص جداً، قمت بإعداده بما يتناسب مع الحدث السوري، ليكون بمثابة احتجاج علني على العنف، على القتل، على براعة النخب الانتهازية عبر مونولوج تلقيه امرأة في عيد زواجها العاشر على زوجها المثقف، زوجها الذي ينتمي بقوة إلى عالم النخبة، والذي يمزج بخبث بين طبقة رجال الأعمال وصفقات البزنس وتبييض الأموال والنجومية التلفزيونية من جهة، وبين طبقة الإنتلجنسيا، هي خطبة لاذعة بلهجة شامية بيضاء، وقفة صراحة مع الذات السورية التي شبعت دماءً وفساداً وتهميشاً للآخر، وأوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم، ولذلك أحاول مع الممثلة روبين عيسى والروائي خليل صويلح تقديم مادة غنية على الخشبة عبر معطيات معاصرة يكون فيها المسرح وجهاً لوجه مع السينما والفيديو والفوتوغراف والإنترنت، عناصر متعددة أستخدمها هنا لتحقيق العرض، بعيداً عن استعمال هذه المعطيات كعناصر تزيينية، بل لتكون السينما والصورة في جوهر بينة العرض المسرحي.
< الكثير من المثقفين والأدباء يقولون إن المسرح في وضع مأساوي ما سبب هذه النظرة.. هل الدراما، أم الوضع المادي الذي جعل كتاب ومخرجي وفناني المسرح يبتعدون عنه؟
<< لطالما قلت إن المسرح هو الدراما، التلفزيون شيء آخر كونه يقدم دائماً بصيغ ترفيهية بغية اعتقال الناس في بيوتها، المسرح ظاهرة اجتماعية ووسيلة من وسائل الاتصال الجماهيري، وهذا الاتصال لا يمكن أن يتم إلا عبر هذا البرلمان الشعبي الحر، ليس هناك أزمة مسرح في سورية، بل هناك أزمة تشخيص أزمة، بمعنى ثمة تركيز إعلامي جاهل على أن موديل المسرح أو المشتغل في المسرح في أزمة لا خلاص منها، وهذا عائد إلى شكل السلطة العربية وطريقتها في التعامل مع المسرح كفن يدعو للاجتماع والتجمع، أي للحوار، للجدل، للسؤال، وهذا ما تخاف منه السلطة وتدفعه دائماً إلى أن يكون على أنه في أزمة، هناك تجارب جديدة هامة في سورية لم تلق التشجيع الكافي، ثم إن هناك تركيزاً على تقديم النصوص المترجمة دون الالتفات إلى الراهن، ودون العمل على إعداد إنشاء درامي للنصوص المنقولة، وهذا بدوره يلغي أن الجمهور في النهاية كائن تاريخي وجغرافي، مما يدفع إلى "تطفيش" المتفرج.. الجمهور بحاجة إلى أن يشاهد نفسه على الخشبة، يشاهد ما يعنيه لا أن يظل يشاهد عطيل يقتل ديزديمونة دون أن يتدخل ولو لمرة، بالله عليك كيف لجمهور سورية 2012 أن يتعاطف مع مسرحيات من عصر النهضة؟ المطلوب اليوم هو مسرح طازج وراهن يحاكي هموم الناس، يتكلم بلغتهم لا يتفاصح عليهم.
< هل ينضوي "ليلي داخلي" في سياق الأعمال المسرحية التي قدمتها مع فرقتك "أنصار المسرح" في الأرياف والمدن السورية النائية؟ أم أنه تتويج لعشرات المقالات والدراسات التي قدمتها عن المسرح السوري المعاصر؟
<< اليوم، بعد انقضاء أكثر من خمسة عشر عاماً على فرقتي المسرحية التي كانت تجوب المحافظات السورية لتقديم عروضها في القرى النائية، وعلى خشبات ومسارح المدن، أجد أن النقد المسرحي يوفر لي مساحة جديدة للتفكير؛ مساحة أظنها تنتهي اليوم إلى العودة إلى التأليف والإخراج المسرحي، خاصةً أنني أرى أن هناك مجالاً اليوم لبزوغ طليعة ثقافية جديدة في المسرح والسينما والشعر.. النقد المسرحي دائماً يعني لي كتابة للنص من جديد، وتقديم رؤية إخراجية لما كان يمكن أن يكون عليه العرض الذي أنقده، إضافةً إلى أن معظم خريجي قسم النقد المسرحي للأسف لم يتصدوا لهذه المهمة.. أنا لم أدرس النقد، كما تعرف، أنا خريج قسم الصحافة في جامعة دمشق، لكنني لا أجد مندوحة من تعزيز أي نشاط مسرحي سوري، فعلى مدى السنوات العشر الأخيرة تصدّيت لكتابة نصوص نقدية عن عشرات الأعمال المسرحية، في الوقت الذي كان فيه من يتخرّج في قسم النقد، أومعظمهم، يذهبون إلى كتابة التلفزيون.. حتى إن معظمهم لا يحضرون مسرحاً، فمعظمهم من أسف دخل إلى المعهد ليشتغل في التلفزيون.. اليوم نحتاج إلى الكتابة ضد البروشور؛ إنها الكتابة المعقمة من التدليس؛ كتابة قادرة على مواكبة التجربة المسرحية السورية، وأنا لا أدّعي أنني أستطيع القيام بهذه المهمة بمفردي، لكنني من خلال إشرافي على ملفّ المسرح في جريدة «شرفات الشام» التابعة إلى وزارة الثقافة، استطعت أن أجمع حولي العديد من الأقلام النقدية الجادة التي رافقتني منذ خمس سنوات في تحرير ملف المسرح بقصد مواكبة الحراك المسرحي السوري، ليس في دمشق وحدها؛ بل في كامل المحافظات السورية، وحلمي اليوم هو طباعة كتابي عن المسرح السوري المعاصر، الذي يحمل عنوان "الكتابة ضد البروشور" هذا الكتاب الذي حققته عن حوالي ثلاثمئة عرض مسرحي سوري معاصر، بالإضافة إلى أرشيف خاص بصور هذه العروض.
< تكتب السينما والمسرح والشعر، ماهي طقوس الكتابة لديك؟
<< الحقيقة لا طقوس للكتابة لديّ، أنا دائم الكتابة، الوقت كله أقضيه في تأمل العالم من حولي، حركة البشر، عاداتهم الصغيرة، ذهابهم وإيابهم من الأعراس والجنازات ومباريات العمل، الجلوس إلى منضدة لكتابة نص هو آخر مرحلة من مراحل هذه الحمى، وهي أسهل مرحلة وأكثرها سلاماً، الكتابة شيء يلازمني كالصداع، كوجهي..ولهذا أنا أمضي دائماً وقتي في قراءة الهواء من حولي.
<ما الجديد على مستوى الكتابة الشعرية الذي تنوي تقديمه في ديوانك الجديد "أطلس لأسمائك الحسنى"؟
<< كتابي الشعري "أطلسٌ لأسمائكِ الحسنى" الذي أشتغل فيه على تعزيز الشخصي والحميمي والدفين، باعتبار هذا الشخصي ليس ملكاً فردياً بقدر ما هو جزء بسيط من تجربة الإنسانية، واقتفاء لمعنى مواجهتك لوجودك ككائن وكاتب في الوقت ذاته، لذلك أعتقد أنه من غير المفيد أن يموّه الشاعر نفسه في قصيدة اليوم، عليه أن يكون شجاعاً باعتبار الشخصي هو عتبة النص الفائق، النص المتفوق على احتكار الذات وتقديسها وجعلها في منأى عن الكتابة، الشخصي في كتابي الشعري الجديد يطل على الجرح السوري المؤلم، وقد ألقيت من هذا الكتاب مؤخراً في أمسية شعرية في غاليري "زيكو هاوس" في بيروت، وفي أمسية أقيمت مؤخراً في غاليري "نينار" ضمن فعالية "يا مال الشام" التي ينظمها الفنان أحمد كنعان أسبوعياً، وذلك كي أختبر ما كتبته طيلة السنتين الماضيتين، وفوجئت بحجم الاحتفاء والإصغاء اللذين لمستهما في تلك الأمسية البيروتية والدمشقية على حدٍ سواء.
< كتبت مؤخراً ثلاثة سيناريوهات لأفلام سينمائية، الأول كان مع المخرج محمد ملص تحت عنوان " سينما الجحيم"، والثاني روائي قصير حمل عنوان "توتر عالي" والثالث "ثلاث أرواح للوردة" سيحققه المخرج باسل الخطيب قريباً..ماهي أهم الأفكار والرؤى التي قدمتها في هذه السيناريوهات؟ وهل قاربت فيها الحدث السوري الراهن؟
<< الحقيقة هناك أفكار عديدة طرحتها من خلال السيناريوهات الثلاثة، أهمها مع المخرج محمد ملص، ففي سيناريو "ناموسينما" الذي كتبته مع الأستاذ ملص هناك إطلالة على الراهن السوري عبر قصة فتاة سورية لأسرة سورية معارضة تنتحر غرقاً في بحر طرطوس عام 1978 لتعيش جيلاً آخر بحسب عقيدة التقمص، وتولد في أسرة ضابط في الجيش السوري، ومن خلال قصة هذه الفتاة التي تترك طرطوس لتعيش وتدرس المسرح في دمشق عام 2011 نطل على سورية في العقود الثلاثة الأخيرة، على هذا التناقض الجوهري بين جيل عاش زمن الخيبة الجماعية وبين جيل يطمح لنيل مكانته وموقعه، نتعرف أكثر فأكثر على بنية المجتمع السوري المعاصر، نتعرف على شباب وصبايا يريدون أفقاً جديداً يناسب تطلعاتهم وآمالهم، إنها تجربة في غاية الأهمية مع صاحب "أحلام المدينة" تجربة وضعتني بقوة أمام كتابة سينمائية مختلفة وخاصة، لتكون تجربتي الثانية مع سيناريو الفيلم الروائي القصير "توتر عالي" وهو فيلم من صلب الأزمة التي تمر بها البلاد..لكنه لا يريد المباشرة..لا يجيدها ربما..الفيلم هنا لا يأخذ مسافة مما يجري..على الإطلاق..هو يعتبر الإنساني الدفين خير معبر عما يحدث..دون هتاف ودون صراخ..ودون ادعاءات..الفيلم ينجو بنفسه من التسجيلية..من المتحفية، ينجو بنفسه من كل الشكليات الجاهزة..هو ملامسة شفيفة لإبقاء العيون مفتوحة بعد كل هذا الأرق الجنوني المرعب.. "توتر عالي" يحكي قصة حب بين شابة سورية تدرس التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وشاب يعمل كتقني إضاءة في المسلسلات السورية، إنه حب بريء من الرومانسيات الفضفاضة، بعيد عن روايات عبير وسواها من مسلسلات "العشق الممنوع" و"مهند ولميس" الحب هنا قصيدة شفيفة أطمح إلى رسمها عبر سيناريو الحب الذي يمر من عدسة المخيلة إلى أحلامنا الجماعية بمدينة سورية مفتوحة على الجميع، مدينة تستطيع ترميم وجبر الأضلاع المشعورة من أزمة وطنية قاسية.
أما في "ثلاث أرواح للوردة" سيناريو الفيلم الروائي الطويل المأخوذ عن رواية /عندما يقرع الجرس/ للأديب محمود عبد الواحد والذي سيحققه الفنان باسل الخطيب، فهو سيناريو يطل على سورية الخمسينيات في عهد الرئيس شكري القوتلي، والسيناريو يروي حكاية ثلاثة رجال يحبون امرأة واحدة، يتحدث عن التنوع السوري المدهش، وغنى الريف السوري وشاعريته، وأعتقد أن الفنان باسل الخطيب هو الأقدر على نقل السيناريو إلى حالة بصرية عالية أتمنى أن تكون عند حسن ظن الجمهور.
< كيف يمكن أن أفهم منك تأثير التغيير الحاصل في الشارع العربي على الكتابة؟
<< الفن عموماً (والكتابة بشكل خاص) لا يمكنه التعبير بشكل مباشر عمّا يجري.. الكتابة الحقيقية لا تتداعى أمام الشارع.. هي تحتاج إلى وقت كي تتجلى عبر النص.. أما التغيير، فهذا من مناكفات الطبيعة، إنّه خداع بصري ليس إلا.. لا جديد تحت الشمس ياصديقي.. لن يتغيّر شيء، فنحن في البلاد النائية.. البلاد التي تشبه نوافير الماء في ساحاتنا وبيوتنا العربية.. إنها مياه تلتهم وتجترّ مياهاً.. إنها طبيعة مجتمعاتنا الغيبية الثأرية التوحيدية.. مجتعاتنا القطيعية التي لا تقرأ ولن تتغيّر.. مجتمعاتنا التي يخيفها غلاء الأسعار لن تذهب إلى المسرح..
ولن تخرج إلى الشارع للمطالبة بملتقيات نحت تجسيدية.. هذه خصوصية الحشود في تعبئة الجماهير.. الجماهير التي تتولع بـ«مهند» و«لميس» و«باب الحارة»، وتنتظر عودة «أبو عصام» لن تتغير، لكن المشكلة اليوم في هذه النخب الجديدة التي أنتجها الفيسبوك.. نخب لم تمتحن نفسها، ولم تقرأ، ولا تعرف إلا اليسير والمتاح على شبكة الإنترنت عن تاريخ بلادها.. هي نخب للأسف تعاني من مفارقة حضارية مثلها مثل الجمهور الذي تعتقد أنها تتزعمه، فهي تشارك في استهلاك تكنولوجيا لم تشارك في صناعتها، ولهذا هي غير متجانسة؛ غير أصيلة بالمعنى المعرفي.. هي طفرة رقمية تسيّدت فضاءً افتراضياً.. طفرة خارج التاريخ ولا تعرف عن فداحة الواقع مايؤهلها لإصلاحه والتعبير عن همومه الحقيقية، اللهم إلا عن طريق الستربتيز السياسي والاستجمام الثوري.