2012/07/04
علي وجيه- ملحق (تشرين دراما). عندما أقرن أريستوفانس الإغريقي ذات يوم الكوميديا بالعدالة، لم يكن يعلم أنّ السوريين سيحققون رؤيته المجازية حرفياً بعد قرون بأكثر الطرق إضحاكاً وهزلية وبساطة! فمدير المخفر بدري أبو كلبشة يجول في موقع الجريمة قائلاً بتعابيره الكاريكاتيرية المميّزة: «أنفي لا يخطئ»! عندها فقط نستلقي على قفانا من الضحك عالمين أنّ العبارة الفريدة ستعلق بذاكرتنا مدى الحياة..!! لم يكن عبد اللطيف فتحي (1916 - 1986) جديداً على العمل الفني عندما ظهر بالكاراكتر الشعبي الشهير، الذي ابتكره العبقري نهاد قلعي وظهر معه في أعمال مثل (حمام الهنا)، (صح النوم) و(ملح وسكر)، فهو من روّاد المسرح السوري المعروفين، وله الفضل في ترسيخ اللهجة الشامية في المسرح وإثرائه بنكهة شعبية مميّزة.. البداية في ثلاثينيات القرن الماضي مع الفرق والأندية الخاصة، فأسّس فرقة (المسرح الحر) في الخمسينات، وأثرى المسرح القومي بأعمال خالدة، كما مسرح العرائس والمسرح الشعبي والمسرح الجوّال.. سينمائياً، كان موجوداً في أول فيلم روائي من إنتاج المؤسسة العامة للسينما (سائق الشاحنة) 1967، وفي ثلاثية (العار) 1974 التي أنتجتها المؤسسة أيضاً، كما شارك في سينما القطّاع الخاص في أفلام مثل: (الخاطؤون)، (الراعية الحسناء) و(عندما تغيب الزوجات).. فاستحق عن جدارة وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة الذي ناله العام الفائت.. أبو كلبشة كان أحد التمظهرات الجريئة والبسيطة لانتقاد النموذج الرسمي في ذلك الوقت، كما كان مبّشراً وملهماً كعادة تلك المجموعة لتطوّر الكوميديا السورية عموماً فيما بعد، فنهاد قلعي ورفاقه عملوا على عدّة مستويات برؤيتهم البسيطة والعميقة في آن، لإيصال رسائل قوية المضمون بغلاف من الشعبية والبساطة التي قد تبدو ساذجة بنظر غير المتعمّقين.. وغير بعيد عنه هناك فهد كعيكاتي في كاراكتر لافت آخر هو (أبو فهمي)؛ الرجل البخيل الشحيح الذي لا يكترث سوى لمصالحه الشخصية، حتى لو تطلّب الأمر تسويق حبل لشخص ينشد الانتحار! والشعب السوري كله يذكر المشهد الشهير عندما يطلب إذن الكلام من زوجته (سامية الجزائري) بكل طرافة: «أم فهمي.. إحكي ولّا ما إحكي؟!!».. حتى الأجيال الجديدة حفظت المشهد عن ظهر قلب بسبب برنامج (غداً نلتقي) الفلكلوري!! كما يذكر البعض أغنية (إن كان حبيبي لابس قمبازو) التي لحّنها عدنان قريش وأدّاها أبو فهمي باقتدار.. نهاد قلعي استعار كاراكتر (أبو فهمي) من دراما حكمت محسن الإذاعية نظراً لفرادتها وخصائصها المغرية، كما فعل مع (أبو صياح) و(أم كامل).. وباشتغاله المميّز على الشخصية مع المبدع كعيكاتي الذي راح يطورها مع الوقتّ، باتت أقرب إلى المشاهير من الظرفاء التاريخيين الذين لا يمكن الغضب من صفاتهم السلبية أو الحقد عليهم رغم تماديهم أحياناً، مثل أشعب ملك الطفيليين الذي اشتهر بطمعه الزائد وتطفّله على الولائم، وبخلاء الجاحظ..!! فهد كعيكاتي الذي صدر طابع لتكريمه منذ فترة، اشتهر بشخصية أخرى هي (أبو جندل) التي أدّاها أيضاً عصام عبجي، وهو بالتأكيد أحد العلامات الفارقة التي شكّلت المشهد الأول لدراما سورية منتشرة عربياً.. (حمام الهنا) شهد مولد كاراكتر مميّز آخر هو (عبدو) صبيّ الحمام، الذي أدّاه زياد مولوي (1944 - 1997) مستغلاً طرافة تكوينه الجسماني، فهو البدين الطيب لدرجة السذاجة الذي يجد نفسه متورّطاً في الأحداث دون أن يقصد ذلك، سواءً في التلفزيون أو سينما القطاع الخاص في أفلام مثل: (الدنيا نغم)، (رحلة حب) وغيرها، وبقي الكاراكتر مصاحباً لمولوي طوال مسيرته الفنية تقريباً في مؤشّر على نجاحه في الحفاظ عليه وتطويره بما يناسب إطاره النمطيّ الشعبي.. حتى بعد أن تحوّل إلى منتج لأفلامه واختار أن يظهر باسمه الصريح (زياد) ظلّت ملامح الشخصية نفسها حاضرةً، وهذا هو حال الكثير من ممثّلي (مجتمع الشخصيات الشعبية) في تلك الفترة، فالممثّل الذي يخرج عن كاراكتره الشهير لا يبتعد عنه كثيراً، وغالباً ما يرجع إليه بطريقة أو بأخرى.. محمد الشمّاط حكاية أخرى أيضاً، فالشاب الذي أدّى خدمته العسكرية في دير الزور، عمل في المسرح العسكري ولازمه لأكثر من ثلاثين عاماً، وقدّم شخصية (أبو رياح) خال فطوم حيص بيص المؤيّد لقراراتها دوماً، فنجح في السينما والتلفزيون وحتى في الإعلانات التجارية لإحدى ماركات الصابون المعروفة! وهو تأكيد على مفهوم صناعة النجوم الذي بدأ في مرحلة مبكّرة.. نهاد قلعي/الدينمو الرئيسي (حسني البورظان)، دريد لحّام (غوّار الطوشة)، ناجي جبر (أبو عنتر)، رفيق سبيعي (أبو صيّاح)، ياسين بقّوش (ياسينو)، عبد اللطيف فتحي (بدري أبو كلبشة)، فهد كعيكاتي (أبو فهمي)، نجاح حفيظ (فطوم حيص بيص)، زياد مولوي (عبدو)، محمد الشمّاط (أبو رياح)، محمد العقّاد (أبو قاسم: بائع الخضار الشامي القوي صاحب الصوت العريض)، عبد الله النشواتي (أبو شاكر: الرجل الدوماني ذو اللهجة المميزة واللباس اللافت)، أنور البابا (أم كامل: عجوز دمشقية تسبّب المتاعب لمن حولها، وهي من أوائل الشخصيات النسائية في المشرق العربي)، كل مجموعة الحكواتي حكمت محسن (أبو رشدي) ومَن لا تسعفنا الذاكرة في ضمّهم للقائمة الآن.. روّاد تمكّنوا من إنجاز الكثير من لا شيء، في ظل إمكانات التلفزيون السوري البدائية آنذاك، فالتصوير يتم دفعة واحدة لعدم وجود المونتاج وأي خطأ يعني إعادة كل شيء من البداية! ناهيك عن معجزة تقديم بعض السهرات والبرامج على الهواء مباشرةً.. كل ذلك بالأبيض والأسود وعلى ديكور واحد (لنذكر هنا إبداع الرائد يحيى العظم في ديكور حمّام الهنا)، في حين كان التصوير الخارجي شبه مستحيل لعدم ظهور اختراع الكاميرا المحمولة!! على الصعيد الدرامي، مرّر نهاد قلعي رسائله السياسية والفكرية والاجتماعية ضمن كوميديا شعبية بسيطة، اعتمدت على تفاصيل الحياة اليومية في الحارة الدمشقية، التي تقطنها شخصيات نمطية/كاراكترات شعبية أصيلة بيئوياً، لعبت على صحّة بنائها الدرامي والتباينات الصغيرة والنكتة الخفيفة الموظّفة، لخلق حالة متفرّدة تجاوزت الزمان والمكان، فتلك الأعمال ما زالت تلقى المتابعة والشغف وتُعاد إلى اليوم على المحطات المحلية والعربية، منها مؤخراً سوريا دراما،الدنيا وأبو ظبي.. وتلك الكاركترات التصقت بالوجدان الجمعي والذاكرة الشعبية، فتحوّل كل منها إلى أيقونة فنية بحدّ ذاتها، بفضل جهود ممثّلين وكتّاب ومخرجين نحتوا الصخر في المسرح والتلفزيون والسينما، لتجسيم مقطع هزلي ثلاثي الأبعاد بالأبيض والأسود من حياتنا عبر تناقضات الحارة الشعبية وتداخل مصالح أهلها.. لتخرج من عباءة أولئك الروّاد الكوميديا السورية كما نعرفها اليوم..!!