2012/07/04
سوزان الصعبي – تشرين
أصبح لتصوير المكان في الدراما السورية إيقاع جديد يقوم على الاحتفاء بالجماليات الكثيرة التي تزخر بها المدن والقرى والبيئة السورية بالعموم، ولم يعد المكان مجرد عنصر فطري من عناصر العمل،
بل يلاحظ تصاعد رغبة الكتاب والمخرجين بإيلاء المكان أهمية أخرى تضيف إلى النص لغة بلا نطق لكنها ليست لغة صامتة، فالمتتبع للأعمال السورية الحديثة يجد عشق المدينة وشوارعها الممتدة نحو أمداء غنية بغنى البشر، والحارات وأرصفتها وجدران البيوت ودواخلها ، هذا العشق المتأصل في نفوس الناس عامة والمبدعين بما يملكون من حساسية عالية وقدرة مبتكرة على التعبير.
أغلبية الأعمال الدرامية اتخذت من دمشق فضاء مكانياً عالجت فيه قصصها، فنالت الحظ الأكبر في دخول الكاميرا إلى مشارقها ومغاربها، وكان تنوع أمكنتها وعراقة أسواقها وغرائبية بعض أحيائها وغنى تجارب الناس فيها عاملاً جاذباً للكتاب كي يبحثوا فيها ومن أجلها، والمخرجون تصدوا للكم الغزير من الأمكنة كل بحسب عينه الثاقبة.
يبدو أن في قلب المخرج حاتم علي الكثير من الحب لدمشق، إذ جعل من شوارعها وخطوط السير فيها فواصل مشهدية مملوءة بالحركة ومترافقة مع الموسيقا التصويرية، وذلك في العديد من أعماله، في (عصي الدمع) يصور الطرقات ونوافذ البيوت صباحاً تتأهب ليوم جديد يحمل طابعه، وفي (على طول الأيام) يرسم أضواء السيارات الذاهبة دائماً في اتجاهاتها البعيدة والمتعاكسة كمن يشي بروعة الحياة ودأبها على المضي في طريقها حتى مع اختلاف ناسها، وفي(الغفران) يجدد عينه الملتقطة للوحة دمشق المسائية المتعالية بأضواء سهرها وكأن دمشق أساس ثالوث الحب الذي يقوم العمل على التغني به.
المخرج المثنى صبح اعتمد أيضاً على نهارات دمشق وليلها المضيء في عمله (على حافة الهاوية) وذهبت كاميرته نحو طرق ربما لم يعرفها كثيرون، جاعلاً من السماء ركناً أساسياً في لوحاته القصيرة الفاصلة بين المشاهد, وعلى هذه الطريقة وبدافع محبة من المخرجين وربما كتنافس بينهم على من يكون صاحب الصورة الدمشقية الأجمل، رأينا( شركاء يتقاسمون الخراب وأيام الدراسة وحارة ع الهوا) يبحثون في جمال دمشق عن صورة. ودخلت أعمال أخرى إلى فيء دمشق القديمة وبيوتها ومقاهيها ومعالمها الحضارية، مقهى النوفرة كان ملجأً للراحة والبوح والتعارف والسؤال عن الحياة عند شخصية أداها الفنان ( ) في مسلسل ليس سراباً, والدرج المجاور للمقهى والذي يطل على الجامع الأموي ويصعد عليه يومياً شباب ومسنون ويلتقطون قربه الصور التذكارية، كان مرة المكان الأمثل للقاء عاشقين (ليلى وليث) في العمل الجميل(وشاء الهوى)، كما تعارف كل من(مدى وحازم) على جماليات بعضهما البعض واستوحا إمكانية التقارب حين خرجا من مكان العمل المغلق وشربا الماء من صنبور عمومي في حارة قديمة، ووجد(جاد) في شوارع دمشق المزدحمة بالناس والحافلات وعند باعة الكتب المنتشرين في منطقة جسر الرئيس، وجد ضالته في تطوير موهبته في التصوير حالماً بالسفر لدراسة الإخراج السينمائي.. كل هذه التفاصيل والجماليات المكانية المعشقة بمشيئة الحب المظلل بسماء وأحجار دمشق، كان قد اشتغل عليها مخرج العمل زهير قنوع عن نص الكاتبة يم مشهدي.
قبل سنوات شاهدنا مسلسل( وتشرق الشمس من جديد) وكان جبل قاسيون الواصل بين دمشق والسماء الصديق الثالث لرجلين احتاجا البوح والسخرية من الحياة وهما شخصيتا النجمين( عبد الهادي صباغ وجهاد عبده) وهناك سمحا لنفسيهما بشرب الخمر على أمل نسيان هزائمهما، فكان حوارهما شخصياً صادقاً ولم يكن من مكان أجدى بذلك سوى قاسيون, بينما قصدته فرقة شباب غنائية موسيقية في (حاجز الصمت) ورفعوا من هناك أصواتهم وغنوا أغنيات وطنية، أراد المخرج (يوسف رزق) بذلك أن يوصل رسالة الشباب الحارة كمشاعرهم إلى كل الاتجاهات، وكأن دمشق هي الصرح الأبدي للنور.
هناك أعمال عديدة اتجهت نحو المدن والقرى السورية الأخرى ونتذكر هيجان البحر أمام شوق العاشقة في (نهاية رجل شجاع)، والاخضرار الشاهق نحو السماء والمعادل لخصوبة الحياة وبساطتها عند سكان أم الطنافس في(ضيعة ضايعة) حيث البيوت الريفية البسيطة والفقيرة والحقول الغنية والبحر المجاور للقرية كمزيج بين الأكسجين النقي والأسرار البحرية، فعاش الناس بفطرتهم، وكانوا طيبين حتى في شرهم, وهنا دخلت عدسة الليث حجو كمتذوق أصيل للجمال وللطبيعة واستفاد من كل معطيات المكان فكانت أيدي الشمس وظلال الأشجار مشاهد تغري النظر, كما كان البحر بأمواجه الحزينة والغاضبة شاهداً على حيوات متخبطة في (رياح الخماسين) وكأنه يصفعهم أحياناً لما قدمته أيديهم من أخطاء وقسوة وضياع، وكأنه يربت عليهم أحياناً أخرى عسى أن يتحلوا بالعمق كما حال بطل العمل.
ونعود إلى دمشق وإطلالاتها الطيفية، وقاسون وليالي الحب، أو حتى محاولة الحب، كما حصل مصادفة في إحدى حلقات (أهل الغرام 1) بين بطلي الحلقة (نادين سلامة وقصي خولي) كإشارة إلى رسوخ قاسيون حتى عند العابرين فما بالك بالحالمين! ولعل ذلك المرسم البطل في (ذكريات الزمن القادم) وقد شهد دوران العاشقين (كندة و صافي) كشغف بالسعادة على طريقة لهو الأطفال، يختصر عبر اتساعه وغنائه مع البحرة الثابتة وسط البيت الدمشقي، جماليات التاريخ والمكان والإبداع الفني المتجدد بالتنافس..