2013/05/29
سامر محمد إسماعيل – تشرين
اخترعت الدراما السورية مسارب عديدة لشخصياتها؛ فمن الواقعي إلى الفنتازي مروراً بالتاريخي وصولاً إلى ما سمي بـ«دراما العشوائيات» ولئن كانت الصحافة الفنية طرفاً جوهرياً في إبداع هذا التصنيف،
إلا أن ما يبدو واضحاً حتى هذه اللحظة أن هناك رغبة لدى معظم كتاب العشوائيات في استغلال فضاءات المدينة وتبرير كتابتهم هذه بشمولية العمل التلفزيوني واقتحامه لشتى الطبقات الاجتماعية، وذلك تحت حجة فضح المسكوت عنه وتحويل كاميرا الإنتاج الدرامي من مناخ الديكورات الفخمة نحو الأحياء الهامشية وأحزمة الفقر الملتفة حول المدينة. ما يلفت الانتباه هو تكاثر هذه النوعية من الأعمال على اعتبار أنها توفر نوعاً جديداً من «الأكشن السوري» بما يحتويه من عالم خصب للأحلام المنكسرة التي تتداعى على هيئة جرائم شرف وامتثال سكان العشوائيات إلى سلطة الغني القادم من مركز العاصمة بسياراته الفارهة و«بدي غارداته» المتعددة!.
إن نظرة خاطفة على ما صوِّر لمصلحة الدراما السورية في العقد المنصرم تحت مُكنَّى الحفر على حواف المدينة؛ سيرشدنا إلى تشريح واقع الحال للأسرة السورية، وهذا كان من الممكن حسابه لمصلحة هذا النوع من الدراما، لكن ما حدث أن دراما العشوائيات هذه سخرت واقع الأسرة السورية لمصلحة ابتكار فضاءات جديدة تتاجر بالهمّ الاجتماعي لملء ساعات البث الفضائي النفطي بمآسٍ وحكايات فيها خليط عجيب من أنصاف الحقائق والغلوّ والميلودرامية المفرطة.
يحدث ذلك تحت ذرائع عدة وأوهام كثيرة يعدها كتّاب هذا النوع من الدراما تقشيراً للبنية التحتية المعقدة التي يتكون منها المجتمع السوري، ولاسيما ما يسميه علماء السكان بـ «عالم ما بعد الضواحي». الغريب في الأمر أن هذا التقشير لم يتعد حدوده إلا ببانورامية تجوب فيها الكاميرا مساكن شعبية يختفي فيها الأبطال مع نسائهم وأطفالهم تحت أسقف واطئة يفتر فيها الضوء وتتراكم الظلال على وجوههم الشاحبة، هذا كله يحدث بتأثير الفكرة التقليدية عن مناطق العشوائيات باعتبارها مناخاً رحباً للبطالة وفقدان فرص العمل والوقوع المباشر تحت تأثير الميديا.
ربما كان في ذلك شيء من الصحة، لكن، وبالولوج أكثر نحو هذه المجتمعات الصغيرة المتباينة في فقرها وغناها ومستوى قاطنيها التعليمي والاجتماعي، سنعرف أن جلّ سكان هذه الأماكن هم عبارة عن حطام متراكم للطبقة الوسطى التي انقرضت أو في طور الانقراض، هذه الطبقة التي كان من المفروض أن تمثل للرفاهية الجديدة في المجتمع، تضعها ماسمي «دراما العشوائيات» وبشكل سافر تحت عنوان «العشوائية»، هذا التعميم خطير لا يمكن غض النظر عن مضاعفاته، فعالم الدراما اليوم هو جزء من الآلة الإعلامية الضخمة التي تريد أن تعكس حالة البشر وما وصلت إليه من تردٍ أو تقدم اجتماعي وثقافي...
ما أريد قوله أن هذا النوع من الأعمال الفنية يساهم بقصد أو من دونه في تحييد وعزل وتهميش أكثر من نصف سكان مدينة دمشق تحت حجة الشوارع النظيفة المنارة بالكهرباء؛ شوارع لها شبكات عالية التقنية من الصرف الصحي والخدمات والطرق المعبّدة، إن هذا المعيار على أهميته في تشخيص ومقاربة أحوال البشر إلا أنه يبقى معياراً تعسفياً يؤطر الناس بحسب فرصتهم في الحصول على أكبر قدر ممكن من الخدمات؛ هذا إذا استثنينا أن الكهرباء والمياه تنقطع عن أحياء في مراكز المدينة مثلما تنقطع في ضواحيها البعيدة..
المثير للضحك هنا أن «مسلسلات العشوائيات» هذه لا تعرف أو أنها لا تريد أن تعرف أن مدناً ناعمة نمت حول مركز العاصمة واستطاعت أن تبني و تؤمن خدماتها وهذا ليس كما يسميه البعض «ترييف المدينة» التي لم تأخذ هي الأخرى معناها الحقيقي كمدينة، كما لم تتضح لدى سكانها فكرة المواطنة بعد وهذا يمكن معرفته بشكل أكثر قرباً إذا تساءلنا سؤالاً بسيطاً: من هم سكان دمشق؟ عندها سنعرف أن حيوية التنوع الذي تشتمل عليه مدينة بحجم العاصمة السورية، هذا الأرابيسك البشري الهائل في تلونه، هو إحدى أهم السمات التي تكونت منها هذه المدينة.
وفق هذا الفهم يمكننا أن نرى أن ما سمي بدراما العشوائيات ليس إلا بدعة أرادها بعض الكتّاب الذين ملّوا من سرد قصص الحب وصراع تجار السوق فارين نحو نوعية مختلفة من «الشخصيات» لسيناريوهاتهم الجديدة.
لا أعرف إذا كانت الدراما السورية تعاني من عشوائية في خياراتها وهذا يمكن أن نلمسه في ارتجالات الإنتاج لهذه الصناعة -كما يصفها البعض- لكن ما أعرفه تماماً هو أن هذه الدراما تبحث عن أشكال فانتازية أخرى بعيداً عما قدمه نجدت أنزور وهاني السعدي في تسعينيات القرن الفائت، فإذا كانت فنتازيا أنزور والسعدي قد ذهبت إلى نوع من الترميز والمغالاة في شكل الأزياء والمعارك وكوادر التصوير، فإن دراما العشوائيات تريد أن تحوّل حياة شريحة كبيرة من البشر إلى فنتازيا شديدة الغرابة قوامها الواقع وليس سواه. فنتازيا «زمن العار» وغزلان تحت رحمة ذئابها، ولادات عسيرة من خاصرة التزوير الممنهج لكل قيم الرأفة والألفة الاجتماعية.
ليس المقصود هنا تبخيس بيئة العمل الدرامي بوصفها مقطعاً عرضانياً من الحياة الواقعية، لكن هو إطلالة مختلفة على وظيفة الفن لاسيما في مجتمعات لم تنل نصيبها الكافي بعد من التثقيف والترفيه على حد سواء، فدراما العشوائيات مثلها مثل دراما العصابات، أو ما يمكن أن نراه في المستقبل القريب من بزوغ لـ «دراما المافيا» مثلاً، ولا أعرف إلى أي حد يمكن أن نصدق هذه التسميات على أنها أنواع فنية، فالمتتبع للصورة التي تسجلها الدراما السورية سيعرف مدى الأثر الذي تتركه المسلسلات في نفسية المتلقي، علاقته مع مجتمعه ومحيطه، وقدرته بعد ذلك على التعامل مع الآخر والنجاح في حياته كفرد يواظب على حضور واقعه مصوّراً على الشاشة..، هذا ما يدفعني للتساؤل: إلى أي حدّ يمكن للمشاهد السوري خصوصاً أن يتقبل دراما يشارك هو في صنع ملامحها، وهو الذي صار الآن عرضة للتركي والمكسيكي.. والصيني.. وخلافه؟ أين سيهرب هذا المشاهد من قتامة حياته بعد أن استوحى الكتّاب والمخرجون ما استوحوه من أسراره وخصوصياته وجعلوا مآزقه الحياتية وطموحاته منبعاً للفرجة على فضائيات تستدرّ إعلانات الشامبو والسيارات وشركات الاتصال بين مشهد يذهب هو فيه إلى الجامعة، وبين مشهدٍ آخر يقتل فيه أخته التي وقعت ضحية سلاطين المال في بلاده؟ كيف سيتابع هذا المشاهد- المثال نفسه على الفضائيات العربية بعد أن افتُضِح أمره وما عاد بإمكانه أن يتهرب من عشوائية الجدران التي تستره؟ كيف سيمحو هذا المشاهد عنوان بيته من سيرته الذاتية عندما يتقدم للعمل في شركات العاصمة وبنوكها ولاسيما بعد الترويج الذي تساهم فيه الدراما السورية عن مسكنه الشعبي البسيط المفتقد للصرف الصحي؟
من حق الدراما أن تستثمر كل شيء لكن حذار من استهلاك البشر ونمذجتهم على هذا النحو، إنه باختصار تقسيم جديد للطبقات سيعكس فيما بعد أحقاده الطبقية على مجتمع يطمح للحداثة أينما اتجه، كما لا يجوز انتهاك حرمة المأساة لإشباع نهم الأقمار الصناعية وتزجية أوقات المشاهدين الذين يسكنون أحياءً «منظمة» للغاية، وتالياً تحويل المدينة إلى استوديو يتم عزله عن أصوات ضواحيه وما بعدها، تناقض عجيب بين تقريب مايكروفونات الكاميرا التلفزيونية من أماكن العشوائيات؛ وبين وضع كميات كبيرة من الصوف الزجاجي لعزل هؤلاء عن مدنيتهم، هكذا تمسي هذه الأماكن وفق منطق الكاميرا الجديدة عبارة عن برزخ مديد بين حياة الحضر والهمج، الغزلان والذئاب، العار والشرف، قاع المدينة وسطحها، أطفال بقلوب صغيرة، وأطفال المدارس الخاصة جداً..