2012/07/04
بسام سفر – تشرين دراما
استلهمت الدراما السورية الحارة الشامية منذ انطلاقتها الأولى أيام الأسود والأبيض إذ شكل الثنائي الكوميدي دريد ونهاد عماد هذا
الاستلهام في العديد من الأعمال منها «صح النوم، حمام الهنا، مقالب غوار» وسميت في هذه الأعمال «حارة كل مينا ايدو الو» في صح
النوم عبر محاكاة كوميدية للحارة الشامية وقد وجد الفنان نهاد قلعي الذي كتب المسلسل في مجتمع الحارة نموذجا مصغرا لمجتمع أوسع
أراد أن ينتقد علاقاته وان يوصل إليه العبرة الأخلاقية ممزوجة بالضحكة العفوية البسيطة حينا وبالدمعة حينا آخر (1
ولم يتوقف توظيف الحارة عند ذلك حيث استخدمت الحارة عند الكثيرين منهم المخرج علاء الدين كوكش, والكاتب عادل ابو شنب في حارة
القصر والشاعر الراحل محمد الماغوط والمخرج غسان جبري في «حكايا الليل» وفي «زقاق المايلة» للمخرج الراحل شكيب غنام و«دولاب»
للمخرج غسان جبري.
واستمر حضور الحارة الشامية في ثمانينيات القرن الفائت عبر مسلسل «وردة الصباح» للكاتب عادل ابو شنب والمخرج لطفي لطفي ونسج
الكاتب هاني السعدي في مسلسله «حارة نسيها الزمن» من اخراج سالم الكردي حارة متخيلة ليحرك شخوصها على رقعتها ضمن مفهوم
الصراع التقليدي بين الخير والشر، كما رصد الفنان طلحت حمدي في «الدنيا مضحك مبكي» تفاصيل الحياة والعلاقات الأسرية المقتبس عن
تراث القصاص الشعبي الكبير حكمت محسن، ودافعت الدراما عن الحارة الشامية وما يتهددها من مخططات تنظيمية عقارية في نهاية
الثمانينيات وبداية التسعينيات في أكثر من عمل منها «لكِ يا شام» للكاتب خيري الذهبي والمخرج الراحل شكيب غنام و«الهجرة الى
الوطن» للكاتب الراحل عبد العزيز هلال والراحل غنام أيضاً، واستخدم الدكتور رفيق الصبان موضوع تحرر المرأة في المجتمع التقليدي في
«نساء بلا أجنحة» عبر الحارة الشامية من إخراج مأمون البني، وفي تسعينيات القرن الفائت شهدت الحارة الشامية انتاجات ضخمة من خلال
مسلسل «ابو كامل في جزئيه» للكاتب الدكتور فؤاد شربجي والمخرج علاء الدين كوكش الذي قدم قيماً وطنية تصارع مصالح ورغبات
شخصية، في حين قدم عمل أيام شامية للكاتب أكرم شريم والمخرج بسام الملا لوحات اجتماعية يغلب عليها الطابع الحكائي السردي التي
تستوحي حياة حارة دمشقية شعبية في العقد الأول من هذا القرن بأسلوب توثيقي محكم تغلب عليه روح الطرف والدعابة (2) وفي عمل
«بسمة الحزن» المأخوذ عن رواية الكاتبة الفة الادلبي الذي كتب السيناريو له رفيق الصبان واخرجه لطفي لطفي، طرح مسالة النضال ضد
المستعمر وكذلك «حمام القيشاني» في أجزائه المتعددة الذي كتبه دياب عيد وأخرجه هاني الروماني وأيضاً جرى تناول ذلك في «الخوالي»
من تأليف احمد حامد وإخراج بسام الملا.
لكن مع إطلالة القرن الجديد وفي عشريته الأولى حظيت الدراما الشامية بامتياز حيث وصل مسلسل باب الحارة إلى القاصي والداني مدفوعا
بحضور إعلامي غير مسبوق واللافت إن النقد اللاذع الذي وجه إلى هذا العمل كان وقوده في الصعود الصاروخي لدرجة انه دخل دائرة أكثر
الأعمال الدرامية العالمية متابعة (3) وبذلك أصبحت ظاهرة الدراما الشامية جزءاً مهما من الموسم الدرامي السوري إذ تتسابق المحطات
الفضائية العربية على إغناء الطبق الدرامي الرمضاني بهذا اللون الدرامي المحبب إلى الجمهور العربي منذ أيام الأسود والأبيض.
لكن تحولا شديدا حصل على بنية المجتمع العربي والسوري والشامي تحديدا ابعد البنية الدرامية التي تميل الى البساطة وفرض بنية
درامية تتناسب مع القرن الحادي والعشرين قرن القطبية الواحدة وفرض السيطرة الامبريالية الأمريكية على العالم وفي مقدمتها دول العالم
الإسلامي والعربي «عصر الحادي عشر من أيلول 2001» الذي أعاد تصنيف العالم العربي والإسلامي إلى بنية إرهابية مجتمعية، فبدلا من
خوض معركة إثبات التعايش مع المراكز القطبية المتعددة مع عملية انفتاح مجتمعي على العالم الخارجي خرج إلينا منظرو البنية المنغلقة،
والتسلية الدرامية في باب الحارة وأهل الراية والدبور والشام العدية وبيت جدي.
إن الدراما الشامية تقدم حارة افتراضية سحبت من زمانها لتقدم في زماننا بطابع فلكلوري سياحي لا يمت إلى الواقع اليومي بصلة، سوى
استخدام أدوات العمل الدرامية الحالية وكذلك لا تقدم زمانها الواقعي كما جرت الأحداث به بل تقدم واقعا افتراضيا فنتازيا يقوم على البناء
الديكوري للحارة الشامية والبيت الشامي ومكوناته ويستعمل الأزياء الشعبية الشامية القديمة مع إفراغ هذا الشكل الدقيق ديكورا من حيواته
الإنسانية الواقعية إلى واقع افتراضي بالإضافة إلى محتوى ومضمون افتراضي يقوم على استعارة الأدوات اليومية للحارة الشامية بما فيها
بعض أشخاصها ورموزها المكرسين من المختار إلى العكيد إلى شيخ الجامع والمقهى الشعبي إلى الحلاق والبقال «الدكانجي» واللحام
والفران وباقي مفردات الحارة الواقعية في بدايات القرن العشرين. لكن ذلك كله مفرغ ومجوف من الداخل، فالمضمون والمحتوى خُلبي
افتراضي لا يمت للواقع الدمشقي لا القديم ولا الحديث إذ تصبح القضية برمتها لعبة افتراضية تستهوي الناس وتقارب العادات والسلوك
الإنساني من زاويته الإنسانية الطبيعية لكنه يفارق هذا السلوك الإنساني من زاوية الواقعية الحياتية ذات الأهداف والمضامين الإنسانية
المتعلقة بذوات الأشخاص الواقعيين وبأهداف ومضامين المجتمع الذي يعيش فيه هؤلاء الأشخاص في مرحلة تاريخية محددة وضمن بناء
سياسي اقتصادي اجتماعي محدد في زمان ومكان محدد وهذا هو الاختلاف الذي تقدمه الدراما الشامية الفلكلورية السياحية الحديثة ويؤكد
ما ذهبنا إليه الكاتب مروان قاووق حين يقول:«أنا لم أتعرض للواقع السياسي والثقافي للشام في أي مرحلة من المراحل بل وضعت قصصا من محض الخيال وظفت فيها الحاضر ووضعت قصصا اجتماعية واقتصادية عكست فيها واقع مجتمعنا الحالي عبر إسقاطات غير مباشرة»
وحول باب الحارة وفكرته يقول:«أنا مثلا عندما كتبت باب الحارة لم أتطرق إلى تسمية الحارة ولم أوثقها تاريخيا، بل أخذت حكايات من واقعنا
ووضعتها في الماضي ضمن صورة جميلة وطرحت رسالة من خلال العمل وما هو مطلوب من المجتمعات العربية وهو عودتها إلى عاداتها
وأخلاقياتها وتعاونها وتآلفها فيما بينها» (4).
وأفضل من عبر عن واقع الدراما الشامية هو الفنان أيمن رضا إذ وصفها قائلا:« اغلب الأعمال الشامية شوهت دمشق! فهي لم تظهر البيئة الشامية الدمشقية كاملة من جميع زواياها ونواحيها إنما اقتصرت على إظهار الشنب لدى رجال الحي ومشكلات الحواري الاجتماعية ونسيت
تماما أن لكل بلد فنه وثقافته وسياسته وحوادثه التاريخية التي مر بها في ذلك العصر الذي نتكلم عنه وهي لم تتطرق إلى هذه الأمور ولم
تأخذها بعين الاعتبار (5).
ومن خلال الاتكاء على العالم الافتراضي لا يستطيع المتابع والقارئ استخدام مفهوم القياس لأن عملية القياس تبقى في الشكل الخارجي
سواء للحارة أو اكسسوارتها وأزياء شخوصها دون الدخول إلى عمق الموضوع إلا من زاوية الموضوعاتية واعتقد أن من حق كل كاتب أن يختار
الموضوعات التي سيتناولها في عمله، لكن وحدة القياس لا تبقى «صورية منطقية» بالنسبة للنص وإنما يجب أن تعود وحدة القياس إلى
الواقع وليس إلى الخيال, فالمعيار الأساسي هو الواقع المجمل وليس الافتراضي الصوري لذلك ستبقى الملاحظات على النصوص الدرامية
للبيئة الشامية من خارج هذه النصوص لان المعيار النصي الافتراضي يقبل بكل ما قدم وما سيقدم، بينما المعيار النصي الذي يلامس واقعا
محددا في زمان محدد لذلك سيبقى حضور المثقفين سواء الكتاب أو الرموز الثقافية أو الأطباء أو المحامين أو المهندسين أو الأساتذة حضورا
رمزيا لا يلامس الحقبة الزمانية التي يتم الحديث عنها والتي نتلامسها ليس من خلال التصريح وإنما من خلال الاستدلال, ففي أهل الراية تم
الاستدلال من خلال زيارة الإمبراطور الألماني إلى دمشق والمنطقة العربية في فلسطين ولبنان وكذلك في باب الحارة خلال فترتي احتلال
الاستعمار الفرنسي للشام من معركة ميسلون حتى خروج المحتل دون تحديد زمني واضح, وتجدر الإشارة إلى أن النقد الفني والصحفي
لباب الحارة جعل الكاتب للأجزاء الأخيرة يدخل طبيبا ليعالج الإصابات التي نتجت عن الأمراض والحصار للحارة المستوحى من حصار غزة، وخط
أم جوزيف والبئر التي توصل إلى خارج الحارة والمستوحى أيضاً من أنفاق قطاع غزة فالطبيب يوصي الحارس الليلي أن يذهب إلى العطار
«عصام، ميلاد يوسف» لكي يعالج الضعف الجنسي، أما في أهل الراية فإن الجزء الثاني من العمل حذف بعض الشخصيات دون أن يؤثر على
العمل، وكذلك بقيت أعمار الأطفال الموجودين في العمل كما هي رغم السنوات التي مرت على العمل.
إن العالم الافتراضي للأعمال الدرامية للبيئة الشامية لم تعالج سوى المقولات العامة للشخصيات الخيرة والشريرة والصراع بينهما في إطار هذه الأعمال والأطراف الخارجية المتمثلة في الاحتلال الفرنسي في باب الحارة وما يمثلها في حين يجري صراع داخل العمل بين النساء
وكأنهم أعداء في زمن كانت النساء في دمشق وحدها يخضن نضالا مريرا ضد الاستعمار الفرنسي، ففي العام 1919، شهدت دمشق أول
مظاهرة نسائية تهتف بسقوط الاحتلال وكانت أصوات النساء تشق الفضاء ما دفع قوات الاحتلال إلى تفريقهن وإصابة بعضهن وتوالت بطولات
النساء فحملن السلاح والرسائل ونقلن المؤن للثوار واستشهدت الكثيرات منهن مثل «سلمى بنت محمد ديب قرقورة من الصالحية ونايفة
الجابر التي استشهدت في مقاومة الفرنسيين في العام 1922، وام عبدو من أهالي باب الجابية التي اشتركت في معركة قصر العظم يوم 29 تشرين الأول في العام 1925 (6).
وفي النهاية شتان بين ما قدمه الكاتب والفنان الراحل نهاد قلعي وبين ما يقدمه كتاب هذه الأيام اذ استطاع الفنان قلعي ان يقدم نموذجا
مصغرا لمجتمع أوسع أراد أن ينتقد علاقاته فكان النقد لمجتمع هذه الأيام في مسلسل «صح النوم» نجد الفنان دريد لحام «غوار» ينتظر وهو
موظف في شركة الكهرباء مع ورشته ان ينتهي تمديد عمال المياه من عملهم وتزفيت الشارع لتأتي وزارة الكهرباء بشركتها وتحفر من جديد
دون أن يتم التنسيق بين الوزارات والشركات من اجل عمل متكامل وهذا غيض من فيض، ومن خلال ما تقدم وجدنا أن أعمال دراما البيئة
الشامية التي قدمت منذ أواسط القرن العشرين تعرض للواقع السوري عبر الحارة الشامية مستخدمة كل مفرداتها في حين لم تعرض أعمال
البيئة الشامية الجديدة سوى لعوالم افتراضية تحاكي مشكلات افتراضية مثل الصراع بين نساء الحارة الشامية مستخدما كل مفردات هذه
البيئة في الشكل.