2012/07/04
أوشن طارق – دار الحياة
في أحد مشاهد الشريط السينمائي «طباخ الريس» للمخرج سعيد حامد، يقرر رئيس الجمهورية (إحالة على الرئيس في ذلك الحين محمد
حسني مبارك) الخروج إلى الشارع المصري لملاقاة «شعبه» والاطلاع مباشرة على المشاكل التي يعيشها بعد سنوات من الحجب الذي طاله
بتواطؤ من أقرب مستشاريه. تجتمع الحكومة وكل أقطاب الحكم للالتفاف حول هذا المسعى، فتتفتق عبقرية أحدهم في إذاعة خبر كُسوف
الشمس مصادفاً ليوم خروج الرئيس، مع التقرير على أن يكون يوم عطلة، مشفوعاً بالتأكيد على المواطنين بضرورة ملازمة بيوتهم خوفاً على
صحتهم وسلامة أبنائهم. يخرج الرئيس ولا يصادف في طريقه «مواطناً» واحداً في بلد تعداد سكانه 80 مليوناً. وفي ذروة استغرابه يهاتف مدير
مكتبه مستنكراً مناورات حاشيته: «ودّيتو الشعب فين يا حسن؟
في 25 يناير الماضي، خرجت الملايين من أبناء الشعب المصري وهي تهتف بضرورة الإسراع في إقرار إصلاحات سياسية واجتماعية جذرية تقطع
مع سنوات القهر الثلاثين التي استأثر فيها الرئيس مبارك بالحكم، مطالِبة الأخير بالرحيل... الرئيس هو من غاب فعلياً في هذا المشهد الواقعي
عن الاستجابة، وفضَّل البقاء وراء أسوار القصر الجمهوري. إنه تجسيد فعلي صارخ للهوة الكامنة بين واقع الحال والمتخيل السينمائي
وقبل ذلك التاريخ بثلاثة أشهر تقريباً، التقى «طباخ الريس» (الممثل طلعت زكريا) برئيس الجمهورية الفعلي، حيث قدم إليه فكرة جزء ثان كان
يعتزم البدء في تصويره، وهو ما باركه مبارك بعد أن أثنى كثيراً على الجزء الأول وأبدى إعجابه به. جزء ثان قد يبدو الآن في خبر كان، إذ إن الجزء
الأخير والمتبقي من حياة الرئيس حسني مبارك يكتب بعيداً عن أوراق السيناريست يوسف معاطي في مكان آخر تحول إلى أشهر ساحة عامة
في العالم: إنه ميدان التحرير، المكان الذي هاتف منه الرئيس-السينمائي مدير مكتبه متسائلاً: ودّيتو الشعب فين يا حسن؟
على الخطى الأميركية
ربما كانت السينما الأميركية أكثر من اتخذ من حياة الرؤساء مجالاً للتشخيص موزعة بين الأفلام الجدية المبنية على الحقائق التاريخية، وكذا
الأفلام الكوميدية التي لا يعنيها التاريخ في شيء بقدر استثمارها لمنصب الرئاسة كذريعة لأحداثها. ولعلنا نذكر أفلام «ج. أف. كي» و «نيكسون»
و «بوش» للمخرج أوليفر ستون، و «اليوم الأخير»لريتشارد بيرس»، و «ألينور وفرانكلين» للمخرج دانيال بيتري، و «رجال الرئيس» لألان باكولا... إلخ.
ولم تسع هوليود في تناولها لحياة هؤلاء الزعماء وغيرهم إلى إضفاء أي نوع من القداسة أو التأليه عليهم، بل كانت شرسة في انتقاد مراحل
بعينها من فترات حكمهم دون أدنى اعتبار لما يحاول البعض ترسيخه في بلدان العالم الثالث من ضرورة احترام القائد والبحث له عن المخرج الآمن
الذي يحفظ له في التاريخ ذكراً حميداً
ولأن السينما المصرية كانت ولا تزال (ولو بحدة أقل) رائدة على المستوى العربي، فقد كان لها السبق أيضاً في التعاطي مع شخصية رئيس
الدولة سينمائياً ولو باحتشام ومعاناة كبيرين، إذ لم يكن مسموحاً أبداً الاقتراب من حياة الزعيم ما دام حياً وكل الإشارات التي حفل بها عدد من
الأفلام المصرية لنظامي السادات وعبد الناصر مثلاً كانت تدخل في إطار نوع من تصفية الحساب مع النظام السابق ورموزه. تم كل هذا دون بلوغ
مرحلة تشخيص الرئيس حيث اكتفى العديد من الأفلام بالإشارة إليه، إما ببث خطبه أو استعمال صوره الرسمية كممثل للدولة أو غيرها من
الطرق التي حاول الكثيرون استغلالها (في انتظار الفرصة المواتية للمرور إلى المرحلة القادمة)، كما هو الشأن مثلاً في أفلام «العصفور»، و «أبناء
وقتلة»، و «ملف سامية شعراوي»، و «أحلام صغيرة»، و «زيارة السيد الرئيس»، و «الجاسوسة حكمت فهمي»، و «امرأة هزت عرش مصر»... إلخ
وفي السنوات الأخيرة، تطور الأمر إلى حد تخصيص أفلام كاملة للرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، ممثلة في «ناصر 56» لمحمد فاضل،
و «جمال عبد الناصر» لأنور القوادري، و «أيام السادات» لمحمد خان، وكلها أفلام لم تقم إلا بتكريس صورة الزعيم البطل الذي لا يخطئ والراعي
لمصالح البلد العليا في مواجهة الأطماع الخارجية. ولم يتمكن القائمون وراء إنتاج هذه الأفلام من الاقتراب من سلبيات عهدي ناصر والسادات،
باعتبار امتداد شرعيتهما إلى حسني مبارك الناهل هو أيضا من شرعية ثورة الضباط الأحرار ومن خلالها المؤسسة العسكرية القابضة على
الحكم. وأي إساءة إلى الرئيسين السابقين تمتد طبيعياً إلى الرئيس الحالي، رمز النظام المستمرة شرعيته منذ 1952 إلى الخامس والعشرين
من يناير الماضي. وهذا كان حال السينما والدراما المصرية عموماً في تعاطيها وحياة المشاهير من أبناء البلد في كل إنتاجاتها التي تعاطت مع
يمكن اعتباره «رموزاً» للبلد
خدع سينمائية
أما الرئيس مبارك، فقد جرب حظه في السينما مبكراً، حين شارك ككومبارس صامت في شريط «وداع في الفجر» للمخرج حسن الإمام وبطولة
شادية وكمال الشناوي ويحيى شاهين سنة 1956، حيث لعب دوره الحقيقي كقائد لسرب الطيران في الجيش المصري، لتتوقف مسيرته
التمثيلية بعدها لعقود، قبل أن يعود مجدداً في عدة أفلام، من خلال استعمال الخدع السينمائية مصافحاً إلهام شاهين في فيلم «موعد مع
الرئيس»، أو متصلاً بالتلفون للاطلاع على سير الأحداث في «النوم في العسل» و «الإرهاب والكباب» و « كراكون في الشارع»، أو مَلجَأً للتظلم
من خلال صورته المعلقة بالمحكمة في شريط «الحقونا»، من خلال شكوى مواطن بسيط سرقت منه كِلْيَتُه أثناء إجرائه عملية جراحية، أو
مستطلعاً الأمور من وزير في حكومته عبر الهاتف في شريط «معالي الوزير»، أو مستلماً لمطالب الناس في «زواج بقرار جمهوري»، قبل أن يصبح
شخصية سينمائية قائمة الذات في شريط «طباخ الريس»، باعتبار أن الأحداث والأماكن وملامح الممثل خالد زكي توحي بأن الرئيس المقصود في
الشريط هو حسني مبارك. ولعلنا سنركز أكثر على الشريطين الأخيرين «زواج بقرار جمهوري» لخالد يوسف و «طباخ الريس» لسعيد حامد،
باعتبارهما الأكثر أهمية في تناول شخصية مبارك والأحدث إنتاجاً أيضاً، كما أن أهميتهما تكمن في أن المخرجين القائمين وراءهما يعدّان من أبرز
المخرجين السينمائيين في مصر حالياً، بالإضافة إلى حملهما لمشروع ثقافي وسياسي ظهر جلياً في عدد من أفلامهما ولو بتفاوت يجعل من
خالد يوسف الأكثر التزاماً على هذا المستوى
الخاصية المشتركة بين الشريطين هي تقديمهما رئيس الجمهورية بمظهر الرئيس القريب وجدانياً من الشعب والساعي إلى إرضائه وتحقيق
أمنياته مهما عظمت، ففي «زواج بقرار جمهوري» قَبِلَ الرئيس، رغم ما له من هالة وهيبة، حضورَ حفل زفاف شابين من عامة الناس، وفي «طباخ
الريس» خرج شخصياً إلى الشوارع لاستطلاع والأحوال المعيشية للمواطنين البسطاء. كما أن الشريطين يُجمِعان على أن الرئيس محاط ببطانة
فاسدة، فهي إما تستغل تحركاته لتلميع صورتها أمام الآخرين من خلال الاستجابة الفورية لمطالب السكان، التي تعني في الحقيقة تخوفاً من
غضبة الرئيس في حال معرفته بالأحوال الحقيقية للمواطنين، أو من خلال محاولاتها المستميتة في تزوير الوقائع أو حجبها عنه. وهكذا يصبح
الرئيس بريئاً من مسؤولية ما آلت إليه أحوال البلد، فإذا كان الرئيس مقبلاً على شعبه ورجلاً بسيطاً يأكل من أكل عموم المواطنين، فإن حاشيته
تصر على التحكم في علاقته المباشرة مع هذا الشعب وتضلله عن الحقائق راسمة له صورة وردية عن واقع الحال. لكن تقديم الأمر بهذا الشكل
لا يعفي في الحقيقة الرئيس من المسؤولية، باعتباره من يختار معاونيه ومستشاريه ووزرائه، وهو ما يشكِّل الوجه الآخر للعملة التي يحاول البعض
تداولها
يقدَّم الرئيس في هذين الفيلمين أيضاً على أنه الملجأ الأخير للشعب، باعتبار تمتعه بالمصداقية والنزاهة، إذ تتوالى عليه الشكاوى والتظلمات.
لكن الغريب في الأمر، أن مثل هذا الطرح قد يشكل أيضاً إدانة له، ما دام لا يحرك ساكناً لتلبية تلك الرغبات وتغيير الوجوه الفاسدة التي بقيت
مستمرة في مناصبها في شريط «طباخ الريس» مثلاً، بعد أن استبعد الطباخ من القصر إلى غير رجعة، رغم علمه بكل المؤامرات التي حيكت
لتزوير الوقائع وتضليله عن الحقيقة المرة للبلاد والعباد، إضافة الى إظهار الرئيس مجرد دمية ضعيفة تتلاعب بها أيدي الحاشية، ما يسيء إلى
رمزية الرئاسة ومن يعتليها، بل إن تحول الرئيس إلى الملجأ الأوحد يؤكد حقيقة كيف تحول نظام الحكم إلى الفردانية المسيطرة لرأس السلطة
في تغييب كامل لمبدأَيْ فصل السلطات والمحاسبة، الكفيلين ببناء وتكريس دولة المؤسسات، لا دولة الفرد المؤلَّه
معاناة وقصف يومي
لكن أغرب ما يمكن مصادفته خلال تتبع أحداث «طباخ الريس»، هو حقيقة أن أفراد الشعب يعانون كثيراً قبل التعرف على شخص الرئيس، رغم
القصف اليومي الذي يتعرضون له على شاشات التلفزيون الرسمي المتتبع لأتفه تحركات الرئيس واجتماعاته. ولعلنا نستشف من ذلك أن القول
بوجود رابط وجداني بين الرئيس وشعبه يبقى ضرباً من الخيال العاطفي، خصوصاً أن كل من يتعرف عليه يهرب بعيداً، تأكيداً لحقيقة الترهيب
والتخويف اللذين يحكمان الذاكرة الجماعية للمواطن البسيط في علاقته مع السلطة بكل تجلياتها
الخلاصة أن المحاولات المتكررة لتقديم الرئيس المصري حسني مبارك بمظهر المستجيب لتطلعات شعبه، تفشل مع أول قراءة نقدية موازية وأول
امتحان واقعي للعلاقة بين الطرفين، ممثلة في ثورة شبابية مصرية خالصة نادت برحيل «أبو الأمة»، بعيداً عن الفضاءات الرحبة للفايسبوك وتويتر
وغيرهما، حيث تربى جيل جديد خلع عنه جلباب الآباء الخانعين. ولعل محاولة مواجهة المواقع الاجتماعية الافتراضية بواقع البغال والجمال أكبر
تمثل لتردي الفعل السياسي ببلد الكنانة وانفراط عقد العلاقة بين الحاكم والمحكوم فيها
بعد كل ما سبق، نعود إلى ميدان التحرير، المكان الذي هاتف منه الرئيس- السينمائي مدير مكتبه متسائلاً: ودّيتو الشعب فين يا حسن؟ فهناك
تقرر مصير الرئيس فعلياً وربما سينمائياً أيضاً، إذ حضر الشعب، ومعه عدد من السينمائيين، وغاب الرئيس فأسدل الستار على الفصل الأول من
الحكاية