2012/07/04
فجر يعقوب – بلدنا
كان ممكناً جداً أن يكون التلفزيون ممتناً للواقع في مسيرته التي تمتدُّ على أكثر من ستة عقود، لا العكس. إذ يبدو اختراع تلفزيون الواقع مسألة مبالغاً فيها، فلطالما تخلَّف هذا الجهاز عن الركب، وتحوَّل إلى فنِّ أشباح من مختلف القياسات، وأصبح ممكناً متابعة كلّ ما يخطر على البال فيه، وإن كان المسلسل الاجتماعي العربي قد أفرغ من أكثر مضامينه في الآونة الأخيرة التي كانت تفرض نوعاً من التواصل والتفاهم يرضي المشاهد والقائم على صناعة هذا المسلسل بحكم محاكاتها الكثير من الدرامات المترجمة والمستوردة التي فرضت على صناع هذا المسلسل التصالح مع نوعية هذه المسلسلات التي تدور في أزمنة وأمكنة متخيلة،
وتناقش قضايا لاتصلح حتى للسكان القادمين من المريخ، مع تمنُّع الجهات المنتجة للمسلسل العربي من إفساح المجال أمام صنَّاعه، وإتاحة المزيد من الحرية لهم في مناقشة القضايا الأكثر التصاقاً بالمواطن العربي وهمومه الأكثر إلحاحاً من غيرها، وقبول كل ما يمكن أن يقدِّمه المسلسل المترجم والمستورد، بغضِّ النظر عن جرعات التضليل الدرامي التي يمارسها هذا النوع، وقد أصبح من المؤكَّد أنَّ الفضائيات العربية التي وجدت الراحة في هذا المسلسل الاجتماعي المريح من كلِّ الهموم، سوف نراها في المرحلة المقبلة تشجِّع على صناعة المسلسل التاريخي الأكثر متعة وبهجة للعين، وربما تصبح بعض المسلسلات التاريخية العربية التي شكَّلت انعطافات مهمة في مسيرة الدراما العربية نفسها، مجرد تخمين ضائع، حين يكتشف القائمون على هذه الفضائيات أنَّ مسلسلات تاريخية تركية قادمة لتغيِّر من شكل وحجم الخلطة الدرامية التاريخية العربية، تحت ذريعة أنها لم تعد مبهجة للعين أو للتاريخ، ومشاهدة حلقة واحدة من مسلسل (حريم السلطان) على تلفزيون دبي، قد تكفي لتجلّل هذه السطور بنعمة الصواب.
كورال من غير سنونو
مانعرفه عن المشروع أنه كورال غنائي يجمع أطفالاً فلسطينيين في الشتات، ومهمته الحفاظ على التراث الفلسطيني من السرقة والاغتيال. وكورال السنونو، الذي نقصده هنا، تشرف عليه مؤسسة روستروبوفيتش فشنفسكايا الروسية، بإشراف معهد إدوارد سعيد الوطني الموسيقي، وبالتعاون مع وكالة الغوث الدولية (الأونروا). وبالطبع، يمكن للقارئ العادي، لا الحصيف فقط، أن يدرك أنَّ الشتات هنا يجمع الأطفال الفلسطينيين في لبنان وسورية والأردن والضفة الغربية وغزة، وهذا أمر واقعي تفرضه الحالة الفلسطينية نفسها، وهو أمر يتعدَّى كلَّ التقسيمات التي يمكن أن تنشأ عن خطأ مقصود أو غير متعمّد، وما يهمُّ فيه هنا الجهد الذي يبذله كورال السنونو في تنشئة جيل متخصِّص يمكنه حفظ هذا التراث المهدَّد بالزوال والاندثار، بفعل مجموعة من الأسباب، يقف الاحتلال الإسرائيلي على رأسها.
وإذا كان ممكناً أن يشرف القائمون على المشروع سنوياً على توحيد جهود المشاركين فيه عبر الأقمار الصناعية؛ إذ يمكنها أن تبثَّ احتفالها السنوي من دول الشتات، فإنَّ هذا يؤكِّد أنه ليس ممكناً تجاوز هذه الحالة أو إقصاء أيٍّ من المشاركين فيها، كما فعلت محطة الـ«بي بي سي» (عربي) حين أصرَّ التقرير المصوَّر الذي بثَّته الأسبوع الماضي عن كورال السنونو في غزة، كما أصرَّ فيه المذيع على أن يتجاهل تماماً فلسطينيي الشتات في سورية، وكنا نعتقد للوهلة الأولى أنَّ مَن كتب التقرير قد نسي في المرة الأولى أن يذكر مكان وجود شريحة كبيرة من المشاركين في كورال السنونو، ولكن إصراره على قراءته مرة ثانية وثالثة من دون أن يأتي على ذكر هذه الشريحة المهمة والفاعلة في الشتات الفلسطيني، أضاف خيبة كبرى إلى مجموع الخيبات التي لاتجد تفسيراً أحياناً لها، حتى عندما نعرف أنَّ السنونو طائر لايعرف المشي، وإن مشى فهو يتعثَّر.. وفي كورال السنونو ثمة من يجيد الطيران دائماً، بغضِّ النظر عن الفضاء الذي يوجد فيه.
البلطجي كمان وكمان
لن تتوقَّف الفضائيات عن بثِّ الأفلام الخاصة بمشاهد البلطجة التي وقعت في ميدان التحرير في العام الماضي، وبخاصة تلك المتعلقة بـ«موقعة الجمل».
لا بل إنَّ جديد هذه الفضائيات اليوم هو تلك الصور المتعلقة بالداعية السلفي محمد حسان، الذي تظهره أفلام خاصة باتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري وهو يشارك في الموقعة إلى جانب من عرفوا باسم «البلطجيين»..
وإن كان تسريب هذه الصور الآن يستهدف الداعية السلفي لأسباب خاصة بتعقيدات الوضع المصري، فإنَّ الدراما المصرية التي تبحث عن «تيمة» تشكّل لها رافعاً من هول الأزمة التي تطحن الصناعة فيها في هذه المرحلة، وجدت على ما يبدو ضالتها عند ظاهرة البلطجة في المجتمع المصري، وبخاصة بعد تعاظم الانفلات الأمني الذي تشهده أرض الكنانة هذه الأيام.
وجديد هذه الدراما مسلسل «البلطجي»، الذي يناقش هذه الظاهرة من دون إصدارالأحكام المسبقة أو النمطية، بحسب القائمين عليه، على الرغم من كون الظاهرة ليست طارئة، ذلك أنَّ أهل الدراما سبق لهم أن استخدموا المصطلح نفسه من قبل في أعمال كثيرة سابقة، لا بل إنَّ المصطلح لم يعرف هذا الشيوع لولا الدراما نفسها، ومع ذلك يجد القائمون على المسلسل الجديد أنه من المبكِّر تشريح هذه الظاهرة تشريحاً علمياً ومعرفة الأسباب الحقيقية لانتشارها بهذا الشكل المقلق فلا يمرُّ يوم من دون متابعة خبر هنا أو خبر من هناك عن استمرار البلطجة في أكثر من قرية ومدينة ومحافظة مصرية.
قد تأخذ موضة (البلطجة) مدى أبعد مما يمكن تصوُّره في الصناعة الدرامية المقبلة، بخاصة أنها تشغل المجتمع المصري بكافة فئاته وطوائفه، ولأنَّ مَن يلجأ إليها الآن لايهدف إلا إلى الخروج من الأزمة التي يعانيها فقط مِن دون إجراء الحسابات الواقعية والفكرية اللازمة، فهذه الصناعة التي وجدت نفسها تدور في حلقة مفرغة قوامها الموضوعة التي يمكن العمل عليها بعد ثورة 25 يناير، لم يعد بإمكانها على ما يبدو مواكبة ما يدور أمامها بعد أن عجزت لأسباب كثيرة عن استشراف ما حدث، أو ما سيحدث، فتكتفي من موقعها بالتفكير في الـ«البلطجي»، من غير أن تتعمَّق في فكره وشغله وطرائق عيشه.