2013/05/29
وائل عبد الفتاح – السفير
أثار ترشيح مجلّة «تايم» الأميركيّة الرئيس المصري محمد مرسي للقب «شخصيّة العام»، جدلاً واسعاً، وسخطاً في صفوف المعارضة المصريّة. لكنّ من استحقّ عن جدارة لقب شخصيّة العام 2012، لم يكن مرسي، بل سلطة أخرى، بدأت تشكّل تحدياً حقيقياً وصعباً، لسلطة «الإخوان المسلمين». الإعلام المصري، والإعلاميون المصريون، هم شخصيّة العام 2012، بعدما نزلوا إلى الشارع رفضاً لسياسة تكميم الأفواه، ولأخونة الإعلام، ولمطالبات التيارات السلفيّة والإسلاميّة بتطهير الإعلام. تكثّفت خلال العام المنصرم الانتهاكات بحقّ الإعلاميين المصريين، في تجربة تعدّ إيذاناً بانطلاق حرب حقيقيّة، بين الشاشات والمشايخ
ـ1ـ
الإعلام ساحة حرب.
هذا ليس مجازاً من مجازات الدول نصف الديمقراطية. ولا وصفاً من رصيد البلاغة المجانية، لصاحب سلطة أو مسؤول، اعتاد على مشاهدة من ينتقده على الهواء مباشرة.
إنها لحظة التحول المدهشة: الإعلام المصري خارج سيطرة جهة واحدة، القبضة ارتخت. والحرب الآن، بين من يريد الدفاع عن مهنته من جهة ـ وإن كان ممن شاركوا في طبخات المصالح السابقة ـ وبين من يريد أن يبقى الإعلام، «إعلامه» بهذا التعميم والسيطرة.
ليست مسألة حرية إعلام، بقدر ما هي مسألة تفكيك للقبضة الواحدة.
إنها سلطة تريد تمرير نفسها مكان السلطة القديمة، وفي هذه الحرب يبدو الإعلام حرا أكثر، مهنياً أكثر، مؤثراً، وفي موقع العداء مع السلطة، كما لو أنّه فقد كل تقنيات الخطابات الخجولة.
ـ2ـ
الشيخ هدد المدينة.
هناك من حاصر مدينة الإنتاج الإعلامي، في مقابل حصار القصر الجمهوري. الإعلام مقابل الرئيس. سلطة ضد سلطة. وهكذا فان مهووسي الشيخ حازم جسدوا واقعياً الفكرة الافتراضية عن الإعلام كـ«السلطة الرابعة».
حصار قادم من زمن آخر، كأنه رحلة من رحلات الصحراء، أمام مدينة تقوم على تكنولوجيا التواصل عبر الترددات غير المرئية. هم يبحثون عن كائنات لامعة في هذه المدينة، يفتشون السيارات والحقائب بحثا عن أفراد، بانتظار تعليمات شيخهم. هم يعترفون ويفخرون بأنّهم قطعان في انتظار إشارة من الشيخ، ويطاردون أفراداً لكلّ منهم سيرة ورواية شخصية. هي موقعة بدت فيها الحرب بعد تجريدها ومن دون تفاصيل، حرباً بين أزمنة مختلفة ـ زمن قديم وزمن في مرحلة التكون ـ وثقافات متباينة، الطاعة في مواجهة الخروج عليها، والبدائية (في جوهرها) في مواجهة التحضر (الذي يتخلص من آثار البدائية الخشنة)، والقطيع (الفخور بتبعيته للشيخ) في مواجهة الفرد (الذي مازال يتحسس هذه الفردية ويخلصها تعقيد العلاقات في مجتمع الحداثة العرجاء).
حصار «حازمون» للمدينة الإعلاميّة، بكامل هستيريته، وضع الإعلام طرفاً في حرب الإسلاميين بقيادة الإخوان ضدّ الثورة. وضعوه في حزمة واحدة، كأنّهم لا يمتلكون ١٣ قناة، بدءاً من اللسان التلفزيوني للإخوان، قناة «مصر ٢٥»، إلى طيف القنوات الدينية. كأنَّ نجوم تلك القنوات، بعد فشل في مواجهة منافسة الشاشات الأخرى، اختاروا منصات الخطابة خلال الحصار، لنقل المنافسة المهنيّة إلى مجال التخوين والتكفير والتهديد.
وقف هؤلاء المذيعون/ المشايخ وسط التهليل بتطهير الإعلام الفاسد، لتتبلور من دون وعي، وعلى الأرض، مفاهيم كانت مجازية عن الإعلام كسلطة خارج سيطرة السلطة السياسية. المجاز هنا أصبح واقعياً، تفوق على كل النظريات بواقعية حطمت الفانتازيا.
تحوّل الوجود الافتراضي للمذيع/ الشيخ هنا إلى وجود واقعي يحارب به زملاء محاصرين.. وقنوات وضعت علامات سوداء تخفي بها أسماءها. كأنّها نسيت أن جيرانها في قنوات «الرحمة» و«الحافظ» و«الناس»، وغيرها من قنوات (دينية)، سيتحولون إلى أدلة ومرشدين، إذا عبر «المهاوييس» السور، ونفذوا مخطط اجتياح المدينة.
ـ3ـ
هم لا يتحملون الصورة.
يكاد إعلام القنوات الدينية يحولها إلى صوت، منصة لشيخ، أو منبر لواعظ.. لا تبادل للمعرفة، ولا نقد عبر الفرجة. الصورة ليست فضاء يشارك فيه المتفرج في فهمهم، بل أداة لتثبيت سلطة الشيخ المقيم بكامل هيبته وأكسسواراته في منتصف الشاشة.
الصورة عدوهم الأول. وجودهم قائم على إلغاء الصورة أو، بمعنىً أدقّ، على إلغاء الحدود الفاصلة بين النص والحياة. نص من اختراعه وتصميمه وحياة هي ممر عبور إلى يوتوبيا مصنوعة بالكامل. الشيخ يصادر صناعة الصورة لنفسه. لا يرى نفسه خارج ذلك التماهي بين الخيال والواقع. الصورة تفضح وجوده الواقعي، وتصنع مرآةً للروح، تجعلها موضوعاً للتأمل. يريد الشيخ أن يلغي المسافات ويمحو الزمن، ويهدم السياقات التي قامت عليها الحداثة كلها. الشيخ صنيعة قوته المقموعة، وأسير انفجار مؤجل يعلق مواعيده على دوران الساعة وعودتها إلى «لحظة مثالية» و«مخلص منتظر».
يتصور الشيخ أن الشاشة منصة سلطته، وعليها، يقدم استعراضاته في قتل الخصوم. يختار ما يخاله نقطة ضعف كما فعل الشيخ عبد الله بدر مع الهام شاهين، حين ألغى المسافة بين الفن والواقع، وتصور أنه أمام مشهد جنس علني. لم يتخيل الشيخ أنّ حربه مع الممثلة ستنتهي بالهزيمة، أمام حالة دفاع ضدّ هجوم استخدم العقل الريفي في تعابير مثل «كم واحد اعتلاكي؟» ليهزم في المحكمة وفي العالم الافتراضي حين وزع في الشوارع وأمام المحاكم صورا مركبة لوجه الهام شاهين على جسد عارضة بورنو رومانية.
هزيمة الشيخ كشفت عن هوس جنسي من ناحية، وعن خلط بين خطاب فتاوى النواصي في المناطق الشعبية، وبين خطاب مشايخ الشاشات من ناحية أخرى.
الهزيمة كسرت السلطة حين خرجت من منصة الفتاوى على الشاشة إلى الحياة. أي من ذات النقطة التي أرادت عبرها بناء سلطتها بسطوة العارف المتربع على أريكة وسط جمهور الأرياف.
ـ4ـ
السخرية فن المدينة، لم يجد ما يواجهه إلا خطاب المشايخ الريفي.
السخرية انتقلت من الانترنت إلى الفضائيات عبر باسم يوسف، الطبيب الهاوي الذي أصبح اكبر عدو لدولة الفقيه المصري من الرئاسة إلى مشايخ الشاشات.
يكبر جمهور باسم، وتصف المقاهي مقاعدها كما تفعل في مباريات كرة القدم المهمة انتظاراً لعرضه الأسبوعي الكوميدي «البرنامج؟». «ستاند آب كوميدي»، تجاوزت المسرح والشاشة لتشارك في تفكيك سلطة ومشايخها، ريفية العقل والطابع والهوى.
لا تتحمل السلطة الهوى القادم من المدينة لتحطيم الأصنام القديمة، إعادة صناعة العلاقات على أساس الحرية، لا على أساس من يعرف المصلحة العليا و يعيد تعبئتها في عبوات يسيطر من خلالها على جماهير منتظرة في البيوت.
السخرية محرضة، مستفزة، تدفع المتفرج إلى التخلص من القبضة الناعمة للسلطة، وهذا ما يفعله باسم يوسف في استعراض مادته هي الصورة، لا سطوة اللفظ والصوت والموعظة. انه يفكك الروايات المتقنة والركيكة معا وفق سيناريو مكتوب من موقع لا يمثل سلطة بديلة.
ـ5ـ
الإعلام المصري الآن أناركي؟
أي من دون سلطة؟
أين ذهبت السلطة الناعمة التي كانت تسيطر على الإعلام وتحجم انفلاتاته؟
الإعلام بعد ذهاب سلطة العسكر، لم يعد أمامه سوى الدفاع عن مهنته، وهذه واحدة من تجليات وصول روح الثورة ليتحول كل مكان إلى ساحة حرب، حتى لو لم يكن ساكنوه من الثوريين.
الإعلام الآن يدافع عن مهنته، أو مصلحته، من دون الخوف من سلطة قابضة. وهذا صنع جزءاً من حرية لقنوات وصحف كانت تعاني من ضغوط القبضة الواحدة.
كان يمكن لضابط امن الدولة (أيام مبارك) أن يتحول إلى «معدّ» لبرامج التوك شو، يختار الموضوعات والضيوف (أو على الأقل يكون له حق الفيتو). ورث هذه المهمة ضباط الشؤون المعنوية (أيام حكم المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية). وعندما ضعفت قبضة «العارف بمصلحة الدولة العليا»، لم تتكون بعد قبضة «العارف بالله والحاكم بأمر جماعته». وهذا ما جعل الإعلام يصنع تعدديته للمرّة الأولى، خارج السيطرة، ومقاوماً لكل قبضة.
مازال رأس المال خائفاً، لكن نجوم التوك شو، الذين كانوا شركاء في السلطة أيام مبارك، والمجلس العسكري، يقاومون الآن تغول السلطة. وهنا ظهر التعدد في نبرات الخطاب المقاوم، وظهرت مهنية في أدوات التغطية، لتصبح قنوات مثل «النهار»، و«سي بي سي»، و«أون تي في» في المقدّمة إلى شاشات تقدّم خدمة تفوقت على سقف «الجزيرة « المهني. دورٌ حاصرته على ما يبدو قبضة ما، وحجمته ووضعته في صراع جعله بالنسبة لجمهوره القديم جزءاً من «السلطة»، لدرجة تمّ إحراق مقرها باعتبارها رمزا من رموز السلطة، بعدما كانت تردداتها في الأيام الـ 18 الأولى للثورة، تكتب على الجدران..
أصبحت «الجزيرة» ضمن حزمة إعلام يسيطر عليه وزير الإعلام القادم من عالم التوجيه المعنوي في مكتب الإرشاد. وهذا التغيير لا يخصّ «الجزيرة»، وإنما يتعلق بتأثير مقاومة للسلطة وتأثيرها على تخلص الإعلام من التعميم. وهذا سر الحصار... إنّّهم يريدون الإعلام بالألف واللام. والإعلام بفعل الروح الجديدة لم يعد قابلاً للوضع في حزمة واحدة جاهزة لأي سلطة.