2013/05/29
جوي سليم السفير
في اليوم الأول من العام 1997 توقف قلب جوزيف صقر عن الخفقان، وسكت صوته الذي صدح لثلاثة عقود على خشبة المسرح. من الصعب أن نكتب عن جوزيف صقر، يمكننا أن نكتب عن أغنياته، عن أدواره المسرحية وربما عن حياته. ولكن كيف نكتب عن الأثر الذي يتركه صوته في نفس كل من يسمعه؟ حين يجمع كل من عرف صقر على صفاته تدرك كم كان جوزيف يشبه صوته: طبيعي، عذبٌ وطيّب.
"عطاني عمرو، أنا عمرو شو بدّي فيه، أنا العمر اللي عليي مش عارف كفيه". هكذا رثى زياد الرحباني صديقه في زاوية "أعذر من أنذر" في "السفير"، حيث كان يكتب بصورة شبه يوميّة عامَي 1997 و1998. قد تكون هذه العبارة كافية لمعرفة الحزن والفراغ الكبيرين اللذين تركهما غياب جوزيف صقر في حياة صديقه، والذي يحكي حتى اليوم في مقابلاته، عن رحيل جوزيف الذي "عطبنا". لم يستطع الرحباني أن يعثر على صوت يحلّ مكان صوت صقر في أعماله، أو أن يقترب منه حتى. ليست القوة هنا معيار الصوت ولا المساحات الصوتية أو الإمكانيات الخارقة. بل الشخصية. "شخصية الصوت" التي تمتع بها جوزيف صقر، والتي تعدّ نادرة لدى المغنين. كيف نسمع صوت جوزيف صقر من دون أن نشعر بصدق ذلك الرجل، وروحه المرحة؟
ولد جوزيف صقر في قرطبا العام 1949. كان مدرساً للغة الفرنسية قبل التحاقه بالفرقة الشعبية اللبنانية التي أسسها الأخوان الرحباني. وبدأ الجمهور يتعرَّف عليه في أدوار صغيرة في مسرحيات الأخوين الرحباني مثل "فخر الدين" و"هالة والملك" وغيرها. ثم شارك بأدوار بارزة في مسرحية "لولو" (1974) حين لعب دور المرشّح للانتخابات النيابية فارس بيك الذي يحاول أن يحرّض لولو على قتل خصمه الانتخابي. وفي السنة التالية رأيناه في "ميس الريم" (1975) في دور "النسناس" الذي يرافق زيّون بعدما تعطلت سيارتها في ساحة ميس الريم. غنّى صقر في كورس الرحابنة مع مروان محفوظ وآخرين، قبل أن يسمعه زياد يغني منفرداً ويعجب بصوته، الذي تحوّل لاحقاً إلى حاضن لمعظم ما ألفه زياد. فرأيناه بعد ذلك في دور نخلة التنين في "سهرية" (1973)، ومن ثمّ بركات في "نزل السرور" (1974)، ورامز في "بالنسبة لبكرا شو" (1978)، أبو ليلى في "فيلم أميركي طويل" (1980)، المختار في "شي فاشل" (1983)، والصراف البيروتي في "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993) وفي "لولا فسحة الأمل" (1994).
تنقل جوزيف أثناء الحرب الأهلية بين بيته في القنطاري في بيروت وقريته قرطبا. كما أقام لفترات في دمشق وأبو ظبي. وفي مقابلة على "تلفزيون المستقبل" العام 1993، أعلن جوزيف صقر أن أكثر دور مسرحي أحبه كانت شخصية "أبو ليلى" في فيلم أميركي طويل، وقال: "كان البلد مخضوض من وين ما كان، وإجا دور أبو ليلى حتى فرّغ كل ما بداخلي من سخرية تجاه الوضع، بما أنّ السخرية غير متاحة كثير بالحياة الفعلية". في الواقع، تركت كل أدوار جوزيف صقر في مسرح زياد الرحباني، أثراً عميقاً. قد يكون دور الصرّاف لم يأخذ حقه من التعليق الكافي، بسبب ضخامة العمل وكثافته. جسّد جوزيف صقر في هاتين المسرحيتين دور الصرّاف البخيل، أو بصورة أعمق الملاك/ المتمول/ الرأسمالي البيروتي. كان يحمل على ظهره 7 أعواد خشبية، تمثّل سبعة أرواح. إذ أن هذا الرجل بنظر زياد الرحباني مؤلف المسرحية، لا تهزمه الأزمات المادية التي يمرّ بها، وهو قادر على الدوام أن ينفد بريشه. الصرّاف الذي صوره زياد الرحباني كأنه يكاد يموت إذا ما ركن أحدهم سيارته في موقفٍ يملكه، من دون أن يدفع الرسم، غنّى العتابا في العملين المسرحيين، وهو ما كان قد بدأه على المسرح في سهرية مع موال "طول الهجر"، وختمه في آخر أعماله مع مواويل "صارلي عمر"، و"كنا بعزيمة" التي عاد زياد وضمّها إلى شريط "بما إنو" (1996) مع غيرها من مواويل العتابا التي أجادها صقر.
في مقابلة مع ميشال معيكي على "تلفزيون لبنان" في العام 1992 أثناء عرض مسرحية بخصوص الكرامة والشعب العنيد، ردّ صقر على سؤال "ما الذي يربطك بالعمل مع زياد" قائلاً: "زياد بيجاوب على شو بدي إسأل، إن كان بعمل مسرحي أو حتى بقعدة... بيجاوب عن شو عم فكّر". ولعلّ هذا الاقتران بين اسمي زياد الرحباني وجوزيف صقر، استطاع أن يخلق أحد أهمّ الثنائيات الفنيّة عربياً، خلال العقود الأخيرة، خصوصاً أنّ أعمال زياد الموسيقية والمسرحية، حفرت، عبر صوت جوزيف طريقها إلى الوعي السياسي والاجتماعي والفني لأجيال عديدة.
ما أن يذكر اسم جوزيف صقر اليوم أمام أصدقائه، أو أمام من أحبّوا أعماله من دون أن يعرفوه عن قرب، حتى يترافق ذلك مع ابتسامة على وجه من يتذكره... قد يكون اسم جوزيف صقر، هو الإجابة الفضلى على سؤال فيروز في أغنيتها ""أنا عندي حنين ما بعرف لمين".