2013/05/29
سامر اسماعيل – تشرين
رغم التنوع الظاهري الذي عكسته الأعمال الدرامية السورية على طول السنوات العشر الأخيرة، إلا أن هذه الأعمال مازالت ترزح تحت هيمنة الكليشيهات في معظم أشكالها الفنية من تاريخي ومعاصر وبيئي وديني كما يطيب للبعض أن يصنفها،
ولعل أبرز هذه الكليشيهات وضوحاً هي كتابة الشخصيات في المسلسل التلفزيوني، إذ نادراً ما تفرز الساعة التلفزيونية السورية شخصيات مكتوبة بحق، بل يمكن القول: إن أغلب ما أنتجته الدراما السورية تمحور جميعه في أدوار أكثر منه شخصيات من لحم ودم، وشتان بين الدور و الشخصية، فالدور عبارة عن ملامح برانية يؤديها الممثل من دون أدنى عناء، ويديرها لمصلحة الحبكة الدرامية السهلة، فغالباً ما يكون هذا الدور إما شريراً أو خيّراً، أسوداً أو أبيض على أكبر تقدير، والدور يبقى دوراً في تقسيم كتّاب مبتدئين أو دخلاء على الكتابة الإبداعية، لأنهم يديرون لعبتهم المبسّطة هذه -أي لعبة الأدوار- من دون أدنى عناء، بل يغالون في حدة الزوايا التي يشكلها الدور في مواجهاته مع أدوارٍ أخرى في العمل التلفزيوني، ليصبح المشاهد متابعاً لجوقة من الأدوار السطحية في مشاعرها وأحاسيسها ورغباتها، الدور لا يتيح للكتابة الإبداعية النفاذ إلى العمق كونه يحاكي القشور في كل شيء، ثم أنه لا يسمح بتحقق معنى الدراما، بل يحوّلها إلى مجرد ميكانيك أعجمي عن واقعها المفترض عليه محاكاته، فلا يحدث شيء، ولا يقول شيء، الدور غير قادر أصلاً على إيصال مكنونات الدراما، إنه يراوح في فناء البيت من غير أن يدخل إلى الغرف السرية التي تتيحها الشخصية، الدور قريب جداً من رسوم الكاريكاتور، إنه يوصل الفكرة ببساطة ويعّرف عن نفسه من النظرة الأولى، لذلك فهو لا يحتاج إلى مقدمات، ولا يستأهل قراءات متعددة، حيث أن الدور معافى من كل ما يلزمه من تركيبية، فالمطلوب منه أساساً هو أداء منسجم مع تسطيحاته، أداء متناغم مع الكليشيه الذي يمثله، أهو بقّال الحارة؟ أم «عوايني»؟ أم هو جاسوس؟ أم هو الزوج الآخر من يعلم أو الزوجة المخدوعة؟ أم الرجل المتنفّذ؟ هل هو طالب جامعي؟ أم مدير شركة متعددة الجنسيات؟ أم هو-هي أب أو أمٌّ رؤومٌ يخاف- تخاف على أبنائها؟ سيان كلها، فالأدوار نسخٌ متلاحقة من الثرثرة المفرّغة من مضامينها، لاسيما في معظم الكتابات الجديدة التي صنعت «قوالبها» الجاهزة لطباعة أدوار لا نهاية في لعيها البصري قبل منه الكلامي، أما الشخصيات فلا مجال لها في الدراما السورية إلا ما ندر، فالشخصية رغم أنها دور في الأصل، إلا أنها فارقة، ومفارقة عن مزايا الدور نفسه، كونها قبل كل شيء كتومة ولا تعطي انطباعاً بيّناً من اللحظة الأولى في عين المشاهد، ثم أنها مفاجئة، ثرية، غامضة، عميقة، متناقضة في حدود منطقها الدرامي، الشخصية المكتوبة هي أصل وفصل الدراما، الشخصية لائبة، متحركة، فاعلة، انتقامية، تشفّوية- من التشفي-، مغايرة للتوقعات بالمرصاد، منزّهة عن التكرار، لاذعة، خوّانة، شريرة حتى في مآربها الطيبة ظاهرياً، أنانية، متحاربة، متسلّطة، متغطرسة، متناظرة، متجاورة مع الشخصيات الأخرى، متطلّبة، شائقة، ساحرة؛ الشخصية شكّاكة إلى أبعد حد، مخادعة، متكلّمة حتى في صمتها، رغائبية، مدمّرة، متصارعة حتى مع ذاتها، الشخصية هي المأزق الدرامي، هي من ينجز الخطأ التراجيدي، وهي من يسوّغ له مقتل الترك فيه، الشخصية ليست دوراً مع أنها كذلك، فهي تلمّح ولا تصرح، تغلي لكنها تبتسم، تمد يد الطيبة لكنها فتّاكة وخطرة، الشخصية هي القصة، هي الصراع، هي جسد الحبكة، أما الدور فهو فيزياء محضة، فيما الشخصية كيمياء خالصة تتجلى فيها موضوعية النفس البشرية، فهي ملامح، قسمات، خليط ومزيج هائل من التناقضات، مثلها مثل الكائن الإنساني، فالدراما نحن، الدراما هي اللوبان بين الفعل ورد الفعل، ولا يمكن أن ننعت الأعمال التلفزيونية «بالدراما السورية» قبل أن نكتب خيمياء شخصياتها، لا أدوارها الوظائفية القشرية، ما يحتم بالضرورة ثقافة هائلة لدى كاتب-كاتبة السيناريو، فمن غير الجائز أن يكتب الأميوّن للدراما السورية، ومن غير المعقول أن يُخرج أعمال هذه الدراما جهلة لا يقرؤون، وليس لديهم أدنى درجات التحصيل العلمي أو الأكاديمي، ومن غير اللائق أيضاً ترك الحبل على غاربه لأنصاف وأرباع المواهب، هؤلاء الذين تروّج لهم وتلمّعهم شركات المال الجاهل، ويصبحون نتيجة تضافر عناصر فنية وتقنية موجودة بطبيعتها ومن تلقاء نفسها بين أياديهم أساتذة كبار لا يُشق لهم غبار، ولا يمكن أن يقبلوا إلا بأجور خيالية نتيجة أنهم «نجوم» بالمعنى التجاري للكلمة، فمعظم نجوم شباك الدراما السورية من المخرجين والكتّاب الأشاوس لا يصلحون لهذا الدور، ولا لهذه الشخصية على حدٍ سواء.
إن نظرة خاطفة اليوم لما قُدم في الدراما السورية سيذكرنا على الفور بشخصيات لا يمكن أن تمحى من ذهن المشاهد، كونها- كما أسلفت- شخصيات وليست أدواراً، فمن ينسى على سبيل المثال شخصية «الأزرق» في مسلسل «غضب الصحراء» التي أداها الفنان عبد الرحمن آل رشي؟ ومن ينسى شخصية «أسعد الورّاق» التي أداها الفنان الراحل هاني الروماني؟ بل من ينسى شخصية «الزير سالم» لسلوم حداد؟ ومن ينسى شخصية «ديب» التي أداها بسام كوسا في «سحابة صيف»؟ ومن ينسى شخصية «ابن الوهاج» التي أداها الفنان أسعد فضة في «الجوارح»؟ ومن ينسى شخصية «مفيد الوحش» لأيمن زيدان في «نهاية رجل شجاع»؟ بل من يستطيع أن ينسى شخصية «ضباع» للفنانة الراحلة نجاح العبد الله في «الزير سالم» أيضاً؟ وشخصية مخرج المسرح «وحيد» في «سيرة آل الجلالي» لغسان مسعود، و شخصية «أسمهان» التي أدتها الفنانة سلاف فواخرجي بسحر خالص؟
شخصيات كثيرة حفلت بها الدراما السورية في بداياتها الأولى والمتوسطة، وقليل منها في مرحلتها الراهنة، لكن للأسف تراجعت الشخصيات لتحل مكانها الأدوار، فالكتابة الدرامية اليوم أصبحت تعج بالتقنيين أكثر منهم المبدعين الأصلاء، وأصبح بمقدور الجميع بمجرد الحصول على أنموذج من سيناريو تلفزيوني أن يكتب على غراره، فيمحو النص الأصلي، ويلفق لنا مسلسلاً عن الجريمة الأخلاقية، والمافيات تحت الأرضية، والإيدز، وسفاح القربى، لتمسي كتابة السيناريو «شغلة الما لو شغلة» كما يقال في الدارجة السورية؛ كما تحولت مهنة الإخراج إلى مهنة تنفيذية تدير أدوارها الممجوجة أمام الكاميرا من دون وازعٍ من جمال أو ضمير، وأمكن للبعض بمجرد اعتمارهم لقبعة «كاسكيت» وتركهم لذقونهم تطول وتطول أن يصبحوا- يصبحن- مخرجين-مخرجات، ليبهروننا يوماً بعد يوم بكوارث بصرية وكلامية ما أنزل الله بها من سلطان، فلم تبق مهنة الإخراج ذات طبيعة خاصة تتطلب رؤيا فنية ومعرفية وسيسيولوجية، بل أصبح وبكل سهولة وبمجرد التقرب من الشركة المنتجة، والمواظبة على الحضور المتواصل في مواقع التصوير، والتنقل من مساعد ملابس إلى مساعد مخرج، إلى مخرج منفذ، أمكن أن تصير مخرجاً عبقرياً لا يشق لك غبار، وصار بإمكان أية ربة منزل وهي تقمّع البامياء والفول الأخضر أن تكتب سيناريو «بيجلط».. أيها الساقي إليكَ المشتكى..؟