2012/07/04
الخليج هل شاهدت منذ فترة وجيزة فيلماً مدهشاً في تصويره إلى درجة تحبس الأنفاس؟ وهل كان هذا الفيلم مثيراً إلى حد جعلك تسبح في قلب عالم المجهول؟ إذا كان ذلك حدث، فهل تعرف أي أنواع من الأفلام شاهدت؟ إنه فيلم “أوشينز” أو “محيطات” الذي برع المخرجان جاك بيران وجاك كلوزو في صنعه بعد مرور عشر سنوات على فيلمهما الأول “الشعب المهاجر” . يقول الناقدون السينمائيون إن المخرجين صنعا ما يمكن أن نسميه “أوبرا الأعماق البحرية” التي لم يسبق لها مثيل في عالم الإخراج السينمائي، لأن الصور المشاهدة تكاد تنطق من روعتها، سواء من ناحية الصوت أو الصورة والألوان البديعة التي نلمحها على مدار الفيلم لكائنات بحرية غريبة نكاد نظن أنها من صنع أفلام الخيال العلمي . يضاف إلى ذلك بالطبع، المشاهد الرائعة للعواصف أثناء ذروة المد البحري، ولكائنات بحرية في لحظات فريدة مفعمة بالشاعرية . وازداد الفيلم روعة وجاذبية بالمقاطع الموسيقية التي أدخلها عليه برينو كوليه . ويشير الناقدون إلى أن هذا العمل المرئي المدعم بالتكنولوجيا لم يكن ليكتمل لولا الجلد والصبر اللذان تميز بهما المخرجان، إذ استغرق منهما تصوير المشاهد عدة سنوات، نظراً لأنه كان عليهما زيارة أكثر من 50 موقعاً بحرياً بدءاً من السواحل البريطانية وحتى البولينيزيا مروراً بألاسكا والبحر الأحمر واليابان وأرض أديلي والسواحل الأمريكية . وتطلب الأمر أيضاً تجميع آلاف الصور والتسجيلات والتواصل الحثيث مع العلماء من شتى بقاع العالم، إضافة إلى تأمين المساعدة من قبل الجيش الفرنسي المنتشر في أصقاع العالم . وعلى الرغم من أن الفيلم الذي بدأ عرضه مؤخراً خال من أية خطابات وعظية أو مثيرة للشعور بالذنب، إلا أنه يعطي المشاهدين الرغبة المشتركة في حماية هذا الكوكب الأزرق وربما يكون بداية لانطلاقة تفاؤلية للعام 2010 . ولمعرفة المزيد عن هذا الفيلم الحدث لهذا العام حاورت مجلة “لوفيجارو” الفرنسية أحد مخرجيه وهو جاك بيران . أنتجت فيلم “ميكروكوسموس” وأخرجت “الشعب المهاجر” قبل أن يصبح موضوع البيئة حديث الساعة، فمن أين جاء اهتمامك بموضوع الطبيعة؟ أحلامي كانت دائماً موجودة، لكنها لم تذهب إلى حد التحقق، وعندما كنت صغيراً، كنت كثيراً ما أتردد إلى مناطق مثل بوي دو دوم وإيزير الواقعة على شاطئ البحر، وكان الخيال الجامح لمعرفة المجهول هو الذي يقودني إلى هناك . بعد ذلك بفترة طويلة، جاء تصوير الفيلم الفرانكو إسباني عن رواية “الجزء ال 317” التي كتبت في 1963 وأخرجه بيير شويذر ورفر . وكان هذا الفيلم بمثابة التواصل الحثيث مع الطبيعة، إذ خضنا غمار الغابة بين لاوس وكمبوديا وفيتنام، وعند الصباح الباكر، كان استيقاظ الحيوانات يتردد صداه بشكل مدهش ومتتابع ويثير في النفس الكثير من الإحساس بروعة الطبيعة . وكنت أحب أن أغامر وأنا أسير في الغابة مع بندقية الحارس، بل كنت أسعى نحو اختبار قدرتي على المواجهة والتحمل وكنت أسعى من خلال فضولي وخوفي إلى أن أرمي بنفسي في المخاطر بنية الاستكشاف وفهم الأسرار والغرائب التي كانت ولاتزال تأخذ بعقلي وقلبي معاً . وماذا عن البحر، وهل اكتشفته في مرحلة متأخرة؟ نعم، وكان ذلك في مدينة جرانفيل، حيث تبدو ظاهرتا المد والجزر واضحتين جداً على الشاطئ، وتطلب الأمر مني يومين أو ثلاثة لأتعود عليهما، بل تجاوزت حينها فكرة أن البحر عالم من السكون، كما كان يردد على مسامعنا العالم جاك إيف كوستو . ووجدت أن بحر العالم المضطرب المفعم بالحياة، والذي لا نعلم عنه إلا القليل . أما الاكتشاف الكبير في حياتي، فكان ذلك اللقاء مع أحد الصيادين من منطقة كوليور حين كنت أصور فيلم “والشيطان يقود الدفة” لجريشا دابات . وكنت أثناء الليل أفلت من العمل لأذهب وأقابل هذا الرجل (لويس) على زورق الصيد الذي كان يحبك فيه الشباك . وهناك كان لويس يحادثني عن عجائب البحر وكنت أستمع إليه باهتمام شديد وهذا ما فتح أمامي آفاقاً جديدة كنت أجهلها تماماً عن عالم البحار . كيف جاءتك فكرة إخراج فيلم “المحيطات” وهيمنت على تفكيرك لفترة إلى أن حققت هذا العمل الكبير؟ الفكرة كانت في داخلي مصدرها عشقي للبحر، إذ كنت أحلم به كحلمي بالسينما ولذا أردت الاقتراب منه من خلال هذه (الأداة الشاهد) المسماة بالكاميرا والتي اعتبرها بمثابة العين الثالثة التي تسعى للبحث عن سر الأشياء من خلال الحركة وليس فقط من خلال التأمل . وأعتقد أن ثمة زاوية يتشكل بدءاً منها كل شيء بمعنى أن ثمة مثلثاً يجمع بين المشاهد والشيء المشاهد والوسط الذي نشاهد منه هذا الشيء . ولبلوغ هذه الزاوية كان علينا أن نكون في قلب مسرح الأحداث المتمثل في الحياة تحت الماء . كما هي العادة في أفلامك، يلاحظ أنك قليل التعليقات، فالصور تتحدث من تلقاء نفسها بالنسبة لك دائماً؟ أعتقد أن التعليق أمر حتمي يعبر عن مشاعر المؤلف أو الراوي وهو الذي يوجه الصورة، وأفلامي ليست دروساً في العلوم الطبيعية، وما أتمناه هو أن يطرح المشاهدون التساؤلات وأن يحسوا بالأشياء من دون أن يفهموها بالضرورة فعلى سبيل المثال: “لماذا يجب على سمك المارو (سمك ضخم قد يبلغ المترين طولاً، وهو لذيذ الطعم)، أن يبقى في عرينه (وكره) ليأكل الأسماك الصغيرة البيضاء مثلاً؟ ولذا فإن أسئلة كهذه لا يوجد لها إجابات بالنسبة للمشاهد تجد لها إجابات لدينا بشكل تام، وأرى أن الفيلم الموسوعي عن المحيطات لم ينتج بعد، ولذا فإن فيلمنا هو بمثابة فسيفساء تصويرية من الصور المركبة أنجزها فنانون من عدة تخصصات وهي تمس قضايا مختلفة، لأن من أنجزوها عايشوها على أرض الواقع في أماكن مختلفة وجلبوا في النهاية سيمفونية يمكن لكل مشاهد أن يسمعها ويفهمها حسب درجة حساسيته . ماذا فعلتم للتأثير بجمهور متخم بالأفلام الوثائقية والصور المثيرة للدهشة والإعجاب؟ عملنا سبع سنوات لبلوغ هدف التأثير في المشاهد وحضرنا لذلك على مدى 3 سنوات ثم اتبعنا عملية تصوير المشاهد، بأربع سنوات أخرى وكنا مزودين بثلاثة طواقم من الخبراء في شتى المجالات . زار طواقم التصوير والبحث كل بحار العالم فما هي حالة الأمكنة التي زاروها حسب رأيك؟ توصل هؤلاء إلى نتيجة مفادها أن الإنسان يصطاد 90 مليون طن من الأسماك سنوياً ويرمي منها 20 مليوناً، فهل هذا معقول؟ وأي خسارة تلك وأي استهتار ذاك؟ وهنا لا بد أن أقول إنه يجب علينا فقط أن نشاهد أكوام التونا الحمراء المتوحشة التي تنطلق من السواحل الشرقية للولايات المتحدة مروراً بجزر الأزور التابعة للبرتغال ثم بمضيق جبل طارق لتصل بعد ذلك إلى السواحل السورية أو صقلية قبل إيقافها عبر شباك فتاكة، فمنها ما يؤخذ ومنها ما يبقى محبوساً لشهر أو شهرين، وتصل الكمية المحبوسة إلى 50 طناً يعاد شحنها إلى السواحل الإيطالية والتركية لشحنها من هناك على متن السفن اليابانية إلى اليابان . وهناك في اليابان يصل سعر التونا الكبير إلى 100 ألف يورو . ولو استطلعنا الإحصاءات لوجدنا أنه لم يعد يوجد في البحار أسماك تونة حمراء يزيد وزنها على 600 كجم، أما أسماك المورة (القد) التي تكثر في جزيرة نيوفاوندلاند الكندية فاختفت في حين لم يبق أكثر من 10% من أسماك القرش التي عادة ما تقطع للحصول على زعانفها فقط . والواقع أن المسؤول عن هذا الأمر لم يعد يقتصر على الصينيين واليابانيين، بل نجد أن الإسبان والفرنسيين يبيعونها إلى الأسواق الآسيوية ولذا فإن هذا البطش الذي يتعرض له البحر هو ثمرة سوء تصرف الإنسان بشكل عام وعدم تقديره للعواقب . يعتقد البعض أن الوقت فات من أجل تدخل سريع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فما هو رأيك؟ لسنا ببعيدين عن الكارثة كثيراً لكن أعتقد أن العقليات تتطور وتتغير ومن المفترض إلى الأفضل، وثمة بصيص من أمل في الأفق ولا بد أن نؤمن به طالما أن البحر مكان متجدد وطالما أن هناك من يسهر على حمايته قدر المستطاع . كيف يمكنك تقييم فيلمك مقارنة مع الأفلام التي أخرجها وأنتجها أشخاص مرموقون أمثال الصحافي نيكولا هيلو صاحب مسلسل “أوشوايا” الوثائقي الشهير ويان أرثوس برتراند (صاحب كتاب الأرض كما تشاهد من السماء) أو آل جور؟ نسير جميعاً في نفس الطريق وساهم كل منهم بشكل فعال في إثارة حساسية واهتمام الناس بموضوع البيئة، ولكل منهم طريقته في استثارة هذه المشاعر باستخدام الصورة أو الكلمة أو حتى الخطابة . أما بالنسبة لفيلم “محيطات”، فعدنا من خلاله إلى أصحاب المأساة أنفسهم، فهم الذين يقومون بالأدوار وكل نوع حي يقدم نفسه ويعبر عن نفسه سواء بالقنص أو الهروب أو الهجرة، والجديد هنا أن الكل يقوم بدوره من دون الحاجة الفعلية إلى نص مكتوب . لقد واجه الفيلم الكثير من التحديات فما هو أبرزها؟ التحدي الأول تمثل في مشاهدة عدد كبير ومتنوع من الأنواع الحية في فصول مختلفة عبر العالم، أما التحدي الأكبر فتمثل في إيقاف التصوير، لأنه كان من الممكن أن نستمر فيه لسنوات أخرى . وفيما يتعلق بالجهود المبذولة فالتعب كان مرافقاً للجميع ولكن عندما نريد أن نصعد جبلاً فالأفضل ألا ننظر إلى القمة بل التركيز على كل خطوة من خطواتنا، لأن لحظة بلوغ القمة ستكون مفعمة بالأحاسيس إلى درجة الشعور بالدوار . نترك العمل ونرحل، لكننا عدنا في السنة المقبلة، وفي القطب الشمالي صرفنا وقتاً وجهداً كبيرين للحصول على صورة لحصان البحر مع صغيره إلى أن استطعنا بلوغ المرام . إلى أين سيقودك هذا الهوس بالطبيعة والسينما؟ السينما بالنسبة لي ليست مهنة، بل أراها كهواية متمكنة من نفسي، ومن حسن حظي أن رغبتي بمعرفة المزيد عن الأشياء تكاد لا تكل ولا تتوقف ولا حد لشبعها كما أنني محظوظ بمقابلة العديد من الشخصيات العلمية المثيرة والفاتنة إضافة بالطبع إلى أنني محظوظ في عملي على ايجاد طرق جديدة لتصوير الأفلام باستخدام تقنيات متطورة جداً كتلك التي عملنا من خلالها في فيلم “أوشينز” . عندما تقوم بضبط كاميرتك وتصور البحر لأكثر من أسابيع ثم يمر فجأة أمامك سمك التونة ثم تتوالى الأنواع الأخرى بشكل مفاجئ وكأنها أتت لتتفرج، ألا يستحق منك هذا الأمر عناء المخاطرة من أجل روعة وسحر الطبيعة؟