2012/07/04
محمود منير - العرب اليوم بانتظار آخر ضحكات الفنانة السورية سلافة معمار في دور غريتا بمسلسل تخت شرقي, ينتظر المشاهد نهاية المغامرة التي تخوضها المخرجة السورية رشا هشام شربتجي في ورشة درامية مفتوحة على البحث والتجريب تشاركها فيها كاتبة السيناريو يم مشهدي. كُتب سيناريو العمل بأسلوب يعرض مجموعة حالات تتواصل فيما بينها عبر حوارات ومونولوجات داخلية تقوم على استفزاز تشوهات تلك الحالات وتناقضاتها بلغة إخراجية تقترب من السينما, لتشد الحالةُ المشاهدَ أكثر من التفاته إلى مفاصل الحكاية نفسها. تخت شرقي عنوان يمزج الموسيقى التي تتصل بموروث ومزاج وعقلية شرقية وبين المحرّم المتعلق بقضايا الجنس, وهما يشكّلان المكون الرئيسي للشرق. وعلى نحو لافت, تبرع شربتجي في كسر الصورة النمطية لمشاهد رمضاني كسولٍ ومسترخٍ, عبر توريطه في لعبة جديدة لا تحفل ب¯ الحدوتة بل في طرح تساؤلات خطيرة, رغم تعايشنا معها حتى كدنا نألفها, تدور حول جوهر وجودنا كبشر نحيا في هذه المنطقة في هذه اللحظة التاريخية. ولتعرية هذه اللحظة لجأت المخرجة المبدعة إلى الضحك بوصفه تعبيراً صارخاً ومكثفاً عن بنية شخوصها, ولتترك ضحكاتهم أثراً عالقاً في ذاكرتنا يحفزنا على التخييل ومراجعة مصائرهم كما نراهم في واقعنا, فتلخص ضحكة سلافة معمار تلك المفارقة القاسية التي تحكم حياتنا بالمقارنة مع الغرب - الأكثر تحضراً- سواء ارتبطنا بذلك الغرب عبر صلة قرابة من جهة الأم, أو علاقة انبهار, نتيجة إقامة حقيقية أو متخيلة في دياره, أو خصومة يحكمها تاريخ استعماري ينمي فينا النفور منه والتعلق به في آن معاً. وما أن تهدأ ضحكة غريتا تنطلق ضحكة أخرى ليارا صبري في دور هنادي, وهي ضحكة تختزل خيبات متكررة: فشل في الدراسة, وإحباط في الحب يوصلها إلى عنوسة يقرر ملامحها وسلوكها مجتمع يهوى التنميط, وهزيمة مدوية في تحقيق الذات عندما تنعدم الخيارات في واقع اقتصادي واجتماعي متدهور. وتواصل هنادي, ابنة الثالثة والثلاثين, التفكير في الخيارات ذاتها التي كانت تفكر فيها وهي في الثامنة عشرة: هل تتقّدم مجدداً لامتحان الثانوية العامة لعلها تكمل دراستها الجامعية أم تبحث عن عمل آخر حيث جميع فرص العمل تتساوى في الراتب المتدني وانعدام الأمان الوظيفي, أم في مواصلة البحث عن عريس لكن بمزيد من التواضع بشأن مواصفاته, أم مواصلة الضحك هرباً وحزناً وغرقاً في العبث. تنحاز شربتجي في تجريبها إلى الجرأة في مختلف القضايا التي تتناولها لكن بذكاء لا يوقعها في تبني مواقف مسطحة خاصة فيما يتعلق بالسياسة, فقصي خولي في دور يعرب, وهو أحد النازحين من الجولان السوري المحتل, ينتقد نظرة مجتمعه إلى النازح باعتباره أقل مرتبة اجتماعية بالقول لزميلته ذات الأصول الشامية: يعني لو فاتت إسرائيل كمان شبر لكنت أنا وأنتِ نازحين في مدينة حمص. وفي حوار لا يقل جرأة يرد قصي خولي على مكسيم خليل بدور طارق, الذي يمثل طبيباً فلسطينياً, بتوجيه سؤال واحد: هل ينال حقوقاً بوصفه سورياً أكثر مما يحصل عليه الفلسطيني المقيم في سورية ولا يحمل جواز سفر? بالإشارة إلى الحالة المعترة التي يعيشها الاثنان. لا تقف حدود النقد هنا, فتنتقد المخرجة مشاكل العلاقات التي تجمع عاشقين أو متزوجين من دينيين أو مذهبين مختلفين, والفساد في القضاء السوري, وتدني الأجور, والمحسوبية ونفوذ الراقصات في الأوساط الحكومية, وتدهور القطاع الصحي, وعدم رضا الأهل عن تزويج بناتهم من نازح جولاني أو لاجئ فلسطيني, وصولاً إلى تقليد المذيعين السوريين للهجة اللبنانية. قاربت شربتجي قضايا أكثر حساسية مثل العجز الجنسي, وسن اليأس والعقم, وحالة الفصام لدى الشرقي في نظرته للمرأة حتى لو درس وأقام في الغرب زمناً, من خلال تناولها للعلاقات غير الزوجية في إطار لا يخدش الحياء بقدر ما يهز طريقة تفكيرنا بهذه القضايا, فتقيم حواراً غير مسبوق بين سلوم حداد في دور الدكتور سامر وزوجته سمر سامي في دور الدكتورة نادية حول فكّه تشفير القنوات الجنسية من خلال مقاربة واقعية ومبررة لسن اليأس عند الرجال والنساء على حد سواء. تخت شرقي محاولة لتحقيق معادلة صعبة تعالج المسكوت عنه من دون السقوط في الابتذال الذي اعتادت تقديمه نماذج عديدة في السينما العربية اكتفت بتصوير مشاهد غرف النوم. كذب وحقيقة كما تقول أغنية المسلسل كانت ضمانة المخرجة في عدم إصدارها أحكام قيمة متعسفة على شرقيتنا لكن من دون الانسياق وراء مجاملة الخراب وتكريس الرداءة, فيبقى الصراع مفتوحاً لدى بطل العمل قصي خولي الذي يجسد شخصية قلقة وغير منتمية وعبثية تميل إلى إعادة إنتاج الحياة بالسخرية, لكن ذلك لا يخفي تعلّقه بأصدقائه وجاره أبو يوسف وطفلة صديقه أسعد, ما يدلّ على حنينه إلى حياة اجتماعية مستقرة وعلاقات حميمة رغم هربه من طقوس العائلة وتقاليد مجتمعه. لم ينته التجريب بعد, كاميرا شربتجي تتمرد على ما قدّمته سابقاً, سواء بطريقة التصوير والتقطيع والمونتاج, فاستخدمت حركة الكاميرا (Dolly In) التي تستخدم في السينما في حركات الأكشن, عبر الدخول المفاجئ بالكاميرا عللى وجه الممثل ما استدعى استغراب البعض, لكنها تبدو في المقابل محاولة من المخرجة لتوظيف رؤيتها التي وصفتها قائلة عمل فوضوي يحتمل الفوضى ابتداء من النص إلى التقطيع إلى الممثلين إلى التناقضات بين الشخصيات, حيث لا يوجد فيها خير مطلق وشر مطلق, أو مجرد أبيض وأسود, فشخصيات العمل غير مجملة أو مزينة, وهي واقعية تشاهدها في الشارع. تنتهي الحلقة الثلاثين من تخت شرقي, لتسكن ضحكات ممثليه زوايا واقعنا دالة على تناقضاته ومفارقاته الأليمة, فيما يخرج قصي خولي من الشاشة ليؤنس غربتنا بفائض عبثيته التي تخفي رغبتنا الحميمة بمجتمع لا يظلم أبناءه.