2012/07/04
علي وجيه - تشرين
لا شكّ أنّ بينا باوش (1940 – 2009) أكثر من مجرّد أيقونة في الحركة الثقافية الألمانية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. الكوريوفراف الألمانية تعدّ أبرز مؤسسي مسرح الرقص المعاصر، ممّن نقلوا لغة الجسد من مجرّد الاستعراض والحركات المنسّقة إلى مستوى التعبير الدرامي للجسد والعوالم النفسية الداخلية.
قبل رحيلها الصادم عام 2009، كانت بينا منكبّةً على تحضير وثائقي عنها مع المخرج الألماني الشهير فيم فيندرز، واختيار الرقصات التي ستتمّ تأديتها لتظهر بالأبعاد الثلاثية. صاحب سعفة كان عام 1984 عن «باريس، تكساس» ألغى المشروع برمّته بعد وفاتها، إلا أنّ راقصي «تينز ثياتر فوبرتال»، الذي كانت تديره باوش في ألمانيا، أقنعوه بتصوير الفيلم كوداع تكريمي للمعلمة الراحلة.
الفيلم الكوريوغرافي يعرض أجزاءً من 4 أعمال شهيرة لباوش، هي: «طقس الربيع» (1975)، «مقهى مولر» (1978)، Kontakthof 1978) و«قمر مكتمل» (2006). نرى راقصين يتحدّثون عن بينا ويرقصون لأجلها ومن أعمالها، داخل المسرح وخارجه في الحدائق والشوارع ووسائل النقل والهواء الطلق. في «طقس الربيع»، نرى معاناة نساء في طقس تضحية على وقع موسيقا سترافنسكي فوق خشبة مفروشة بالرمل وحاملة للواعج وصراخ أجساد أنثوية تتوسّل الانعتاق والتحرر. في «مقهى مولر» (أنجزت نسخة تلفزيونية منه عام 1985)، تستحضر باوش ذكريات طفولة متعلقة بالمقهى الذي كان ملكاً لوالديها، حين كانت تختبئ تحت الطاولات وبين الكراسي لتستمع لأحاديث الزبائن. العمل الثالث يجمع أعماراً مختلفة داخل صالة مغلقة بحركات بسيطة ورتيبة بعض الشيء، ليكتمل «القمر المكتمل» تحت مطر مسرحي قرب صخرة كبيرة. روابط متعددة بين كل ما سبق. مجموعة من الراقصين يجسّدون الفصول الأربعة بتكرار لافت. يغادرون المسرح إلى المدينة خروجاً إلى المدى المفتوح كنهاية الفيلم. التركيز على فرادة التوجّه الذي ابتكرته بينا وتعاملها الفريد مع الجسد البشري بقدراته وعضلاته. أثرها على تلاميذها وأسلوبها في البناء على الارتجال وتقويم الاقتراحات لتأخذ شكلها النهائي. الجانب الشخصي غائب تماماً، ربّما لأنّ بينا لم تكن تعيره الكثير من الاهتمام. لا يوجد سرد لسيرة ذاتية أو ما شابه، بل ثمّة تركيز على صور جمالية ولوحات بصرية تبرز الجانب الفنّي من شخصيتها. «المسرح داخل السينما» ليس جديداً (الأفلام المأخوذة عن مسرحيات شكسبير وتجارب سيدني لوميت وبعض الأفلام الاستعراضية)، ولكن هنا نلمس قدراً كبيراً من التماهي بين الفنين. السينما في خدمة المسرح والمسرح في خانة السينما، حتى أنّنا نرى في الفيلم شاشة سينما داخل علبة إيطالية تقليدية.
لم نشاهد الفيلم بالأبعاد الثلاثية، ولكن يمكن القول إنّ استخدامها لم يكن بغرض الاستعراض، وإنّما جاء لزجّ المتفرّج وسط اللعبة السينمائية/ المسرحية وجعله متفاعلاً كالأجساد التي يراها أمامه. هو موظّف هنا كالديكور غير التقليدي المتناثر على الخشبة. في الحيثيات الفنية اللافتة، نلاحظ، مثلاً، كيف تمسح الكاميرا وجه الراقص على خلفية صوته وهو يتحدّث عن بينا. ظهورها المحدود والمدروس في الفيلم على مبدأ «حضور الغياب». لوحات الرقص التي يمكن أن تنفذ في أيّ مكان... كل ذلك يتضافر مع عالم الرقص المعاصر وخصوصية مبدعة استثنائية مثل بينا باوش ولمسات مخرج متمكّن، للخروج بشريط مختلف ولافت قادر على تمثيل ألمانيا بقوّة في الأوسكار القادم.