2013/05/29
بسام سفر – تشرين
منذ الأجزاء الثلاثة الأولى من العمل الكوميدي «بقعة ضوء» لم يأت جزء كالجزء التاسع من زاوية الجرأة في الطرح السياسي المباشر والرمزي، فالجرأة في هذا الجزء لا تأتي خالية من المضمون فقط من الزوايا الشكلية، وإنما تتخطى هذه المظاهر إذ تمضي إلى العمق الواقعي الكوميدي السوري مستخدماً أحياناً غطاء عربياً، وأحياناً أخرى غطاء سورياً. لكن ما يميز هذا الجزء هو الذهاب إلى تحقيق الفكرة العامة لكل لوحة من دون فزلكة سيناريو ومط درامي لا تفيد الفكرة والصورة، وأشرف على هذا الجزء للمعالجة الدرامية رانية الجبان، وتتبدى هذه الجرأة من خلال السخرية من الأيقونة «محمد بو عزيزي» في إحدى اللوحات، إذ يوجد كاتب اللوحة شخصية تريد أن تنتحر في سورية، وتصنع من ذاتها «بو عزيزي» جديداً، لكن أبناء الحي جميعاً يحاولون منعه وتأخيره من أجل طلب الشرطة، إلا أن الأب «نزار أبو حجر» يبقى على تواصل وحوار مع ابنه حول ما يدفعه لحرق ذاته، حتى يتمكن الأب من الوصول إلى ابنه، ويأخذ منه «بيدون» المازوت ذا الخمسة ليترات الذي يحمله لكي يفرغ على جسده المازوت ليشعل به ثيابه وجسده، وحينما يستقر «بيدون المازوت» بين يدي الأب يخاطب ابنه: «وبدك تنتحر روح انتحر بغير المازوت لأن المازوت غالي».
إن صيغة المبالغة في هذه اللوحة التي أصبح فيها المازوت أغلى من الابن تؤكد على مقدار السخرية التي بلغها المجتمع السوري خلال الأزمة التي تعيشها البلاد، فمجرد مقارنة الابن بالمازوت هو من سخرية الأقدار التي يعيشها الإنسان السوري في زمن باتت فيه رحلة الإنسان إلى الفضاء الخارجي للكرة الأرضية دورية، وربما تكون في المراحل القادمة من تقدم الإنسانية هناك إمكانية مفتوحة للراغبين والذين يملكون المال في البداية. كما كل المنجزات العلمية الحضارية. وإذا أضفنا إلى هذه اللوحة جرأة لوحة «خبر عاجل»، للكاتب حازم سليمان نجد أن عبد المنعم عمايري يكسر كل أدوات وسائل الاتصال الحديثة والقديمة لكيلا يستمع إلى الأخبار، لكن في النهاية هذه الأخبار تصل إليه بفعل غير إرادي رغم منعه لزوجته ولهاتفه المحمول والأرضي وكل ذلك لا يستطيع منع الأخبار من الوصول. وأيضاً الجرأة العالية في لوحة حازم سليمان «خرج ولم يعد»، إذ نجد الفنان (عمايري، خالد) يخاف ويركض لمجرد سماع صوت سيارة الإسعاف، يخرج من منزله لكي يكمل الأغراض التي طلبتها زوجته (تولين البكري)، ومنها المخلل، وأثناء وجوده عند المخللاتي، سمع صوت سيارة الإسعاف، فيذهب راكضاً في إحدى الحارات، وهناك يدخله شاب فاتح باب بيته على أنه مناضل، وبعد دخوله يعطيه بارودة كلاشنكوف، لكي يقاتل السلطة، ويموت طبعاً، وتضع زوجته مولودها، لتقول لابنها وهو فتى إن أباه كان من أشجع الرجال وأكثرهم قوة. من جديد صيغة المبالغة في وضع الجبان مكان الشجاع وانتمائه إلى الجرأة العالية في تناول الشخصية، أما ما نريد من المبالغة هي لغة الخطاب الأخير في صيغة رجال «باب الحارة»، والعودة إلى أيام العصملي والاحتلال الفرنسي، وأنه كان يدافع عن حقوق كل الناس، ويحب كل الناس، إنه رجال من ظهر رجال.
إن المفارقة هي جوهر هذه اللوحة في إعطاء خالد صفات وصيغ غير موجودة فيه. فالجرأة هنا في صيغ المبالغة. أما لوحة «قرض شخصي»، التي قدمت فكرتها نور الشيشكلي، وكتب السيناريو لها مازن طه، ويعتمد على أن المواطن عبد المنعم عمايري يريد أن يأخذ قرضاً شخصياً لكي يشتري سيارة، لكن الإجراءات التي يطلبها البنك ميسرة إلا انه لابد من الكفلاء غير المتوافرين، فيضعون كل الأدوات التي في بيته كضمان للبنك، ويقبل بوضع كل ما هو موجود في البيت إلا جرة الغاز، وعندها يشق أوراق القرض، ولا يرضى أن يضع جرة الغاز ضمن الأدوات التي تكفله. بهذه اللوحة نجد أن مفهوم المحروقات في سورية يتضخم ليحتل الحيز الحياتي للإنسان السوري، وبذلك يبدو لديه الاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس على أن يضمن استمرار وجود الطاقة في منزله.
ويظهر مستوى الجرأة المتقدم عندما يطلب مدير مكتب ضابط كبير من الفنان التشكيلي (يزن السيد) أن يرسم صورة الضابط مشوه الوجه، ولا يستطيع مدير مكتبه ومعاونوه إيجاد صيغة لرسمه، في حين يجدها الفنان في رسم البروفيل الشخصي الجانبي، ويكون قد حل المشكلة، لكن في صيغة حديث الفنان مع مدير المكتب تحدث الجرأة في الإصرار على عدم رسم الوجه بحيث يظهر الضابط مشوهاً. أما المفارقة الفكاهية التي نلحظها في لوحة «رسمي جداً»، التي كتبها الصحفي حازم سليمان عن مدير مؤسسة ينتمي فكرياً إلى جيل الخمسينيات والستينيات الكلاسيكي الذي يصر على استعمال البدلة الرسمية (الطقم، والكرافة، والحذاء الأسود الملمع)، بينما هو يعيش في بداية العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، وعندما يقوم بتغير ذاته نحو الانتماء إلى الجيل الحديث، في اليوم ذاته يأتي الوزير، ويعقد اجتماعاً مع مديري الأقسام وبعض العاملين في المؤسسة، ويتأخر هو في الحضور، ويكون قد غيّر مظهره الخارجي كله، مع كل التبرير لذاته حتى إجراء هذا التغير، فيجد الوزير الذي يقوم بتوبيخه على التغير الشكلي الذي أجراه، فيطرده من الاجتماع لأن جميع الموظفين أصبحوا ينتمون إلى المدرسة الكلاسيكية والرسمية جداً في اللباس. ويمكن تسجيل الإضافة النصية في حوار «غدا نرتقي»، التي يؤديها الفنان عابد فهد ومحمد حداقي في نهاية كل حلقة الذي يعتمد على رفع سقف الرقابة التي كانت تمارس على كتّاب وصانعي بقعة ضوء.