2012/07/04
رامـي بــاره
في عصر الإعلام والإعلان الاستهلاكي، الذي حوّل كل ما تنقله الشاشة إلى سلعة محدودة الصلاحية، تحولت عين الجمهور إلى عين آنية (خائنة) تحفظ وتقدّر ما تراه اليوم وتتناسى ما توقف الإعلام عن ذكره. لعل تلك المعادلة القاسية التي فرضها الإعلام هي أحد الأسباب التي تدفع أبطال مونديال 2010 يقدمون لنا أفضل ما لديهم، فهم وإن حصلوا على فرصتهم في قنص الأنظار واقتلاع أبطال كؤوس العالم السابقة من ذاكرتنا، يعرفون تماماً بأن المونديال اللاحق سيكون خائناً لهم، فإن ابتسمت لهم عدسات الكاميرات اليوم في جنوب إفريقيا في وقتٍ تسمّرت به جماهير العالم أمام شاشاتها الصغيرة، فإن الكاميرات نفسها ستدير لهم ظهورها بعد أن يخونهم العمر والقدرة على الجري والقفز في الملاعب الدولية. ومن يحالفه الحظ ستفتح له الكاميرا مغلاقها لنقل فضيحةٍ ما أو خبرٍ خفيف لا يتجاوز الثواني، أما إذا خانت الصحة أبطالنا وتدلت (الكروش)، كما حصل مع بطل البرازيل السابق (رونالدو)، فإن الفضائيات ستكتفي بهذه الحالة بلقطةٍ أرشيفية خفّ بريقها. "دييغو مارادونا" أثبت بجدارة بأنه الاستثناء الوحيد لهذه المعادلة، فإن أخذ منه "ليونيل ميسي" الرقم عشرة في المنتخب الأرجنتيني، فقد تصدر مارادونا الرقم واحد في إعلام العالم الرياضي، ليس فقط في المونديال الذي يجري على الأرض الأفريقية وإنما بحياته الخاصة التي أعتبرها الصحفيون دائماً مادة دسمة تستحق العناوين الكبيرة. عودة مارادونا في كأس 2010 كمدرب للمنتخب الأرجنتيني، بينت رفض الأسطورة لإكتفائه بأن يكون بطلاً سابقاً في تاريخ اللعبة، معتبراً التاريخ شكلاً من أشكال العار الذي يُنعت به بطلاً ما زال يتنفس، وربما هذا ما قصده مارادونا عندما صرح بأن «على بيليه العودة إلى المتحف» بعد نشوب الخلافات وحرب التصاريح بينه وبين الجوهرة السوداء، والتي بدأها مارادونا قبيل افتتاح المونديال ليتحول من لاعب الكرة إلى لاعب الكلمات أمام كاميرات الإعلام بتصريحه: «بأنه (مارادونا) قال منذ البداية إن المونديال سيُقام في إفريقيا، عكس السيد الأسمر الذي كان يرتدي الرقم عشرة»، حيث كان بيليه قد أكد سابقاً أن المونديال لن يُلعب في جنوب إفريقيا بعد حادثة بعثة توغو الشهيرة في أنغولا. ومارادونا أحسن الوقوف أمام الكاميرا دائماً، رغم انتقاداته الكبيرة للإعلام سواء بالتصرفات العدوانية تجاه الإعلاميين، والتي وصلت به منذ سنوات إلى حد إطلاق النار على أحد الصحفين الذين حاولوا تصويره في منزله الخاص. وانتهاءً بالتصاريح الحالية بعيد فوزه على اليونان والتي طالبت الإعلام بالإعتذار عن الانتقادات التي وجهت سابقاً لأداء المنتخب الأرجنتيني. رأينا مارادونا اليوم يجبر كاميرات أفريقيا على الاقتراب منه لأخذ لقطاتٍ قريبة عدة تتخلل المبارايات التي يلعبها الفريق الأرجنتيني، لنشاهده موجهاً فريقه ببذلته الرسمية (بعد أن خسر خمسين كيلو غرام من وزنه إثر عملية تصغير المعدة التي خضع لها عام 2005)، ولتتبعه الكاميرات نفسها في كواليس المونديال، باحثةً عن صورتها الثمينة، ليلتفت نحوها بقامته القصيرة حاملاً السيجار الكوبي وهو على يقينٍ بأن تلك الصورة ستتصدر الصحف والمجلات الرياضية في العالم بعد ساعاتٍ قليلة... ومارادونا الذي قبّل يد اللاعب البرزايلي "رونالديينو" أمام عدسات الإعلام - عقب المباراة النهائية لدورة الألعاب الأولمبية التي أُقيمت في بكين، والتي فازت بها الأرجنتين على نيجيريا بهدفٍ نظيف، نراه معانقاً ميسي ومقبلاً إياه بحرارة بعيد مباراته على اليونان في جنوب أفريقيا، غاسلاً ذنوب ميسي الذي انتقد مدربه في العام الماضي مصرحاً عن الطريقة السيئة التي يدير فيها المدرب دييغو مارادونا الفريق، «فهو صاحب مزاج متقلب وخبرة قليلة، على الرغم من قوة العلاقة التي تربطني به»، وليرد مارادونا لاحقاً عن سؤال الإعلام الملغوم عن تقبيل الرجال بقوله «أُفضّل تقبيل النساء على الرجال، أنا أعشق ذلك ولي صديقة جميلة تُدعى فيرونيسا أقوم بتقبيلها، إنها امرأة شقراء شديدة الجمال». ولعل صفة (المزاج المتقلب) التي تحدث عنها ميسي، هي نفسها الصفة التي جعلت من مارادونا نجماً إعلامياً بامتياز، والتي نقلته إلى السجادة الحمراء في مهرجان "كان" بعد عرض الفيلم الذي قدمه المخرج البوسني الشهير "أمير كوستاريكا" عن حياة ماردونا الخاصة عام 2008، حيث صرح كوستاريكا عن عدم تناوله أحد أبطال اللعبة الآخرين كديفيد بيكهام، «بأن الآخرين لا يملكون الدراما التي يملكها مارادونا في حياته...». وكوستاريكا الذي لهث وراء "شخص يصعُب الوصول إليه" وهو منهمك في تعاطي الكوكائين –التي أقلع عنها عام 2004- استطاع أن ينقل لنا مارادونا "الإنسان والخاص، المتقلب والمزاجي، الروحاني الذي يمكن أن يكون وقحاً للغاية"، ورغم الصعوبات التي واجهها كوستاريكا أثناء تصويره الفيلم خلال عامي (2006-2007) والتي كان أولها بقاء مارادونا تحت تأثير الكحول خلال أيام التصوير، لم ينكر المخرج التسجيلي إعجابه بشخصية مارادونا وبآرائه وحياته خارج الملعب –والتي أغفلتها السينما سابقاً بفيلم "مارادونا طفل من ذهب". يقول كوستاريكا بهذا المضمار: «لقد كان مارادونا مثل القديسين القدماء.. لديك 11 لاعباً من أفضل اللاعبين، لكن كل 15 ثانية تجد مارادونا يتصدر الشاشة، وأعتقد بأنه لو ولد في بغداد منذ 5000 عام، كان سيصبح مثل جلجامش، فهو يمتلك الطاقة الأساسية التي تحتاجها لعبة مثل كرة القدم، إنه رجل خاص جداً، هل يمكن أن تتصور رجلا مثل هذا، يمكن أن يثير الملل على الشاشة؟!!» هذه القدرة التي وصفها كوستاريكا سابقاً، لم يغفلها الإعلام اليوم في مونديال جنوب أفريقيا، فإن كانت ظاهرة (المدرب الذي كان لاعباً) ليست بجديدة - خاصةً وأن مدرب البرازيل "دونغا" كان لاعباً في مونديال1998 – إلا أنه وبكل تأكيد كان مارادونا بؤرة التركيز الذي سرق الأضواء من لاعبيه خلال أيام المونديال السابقة. لقد خسر الإعلام اليوم مادته الدسمة بعد خروج مارادونا مهزوماً من المونديال، وللأسف لن نحظ في أيام كأس العالم الأخيرة بجاذبية ذلك الشخص الذي رقص بعد خسارة البرازيل أمام هولندا، وبكى بعد هزيمة فريقه أمام ألمانية.