2012/07/04
مارلين سلوم – دار الخليج
تسرع إلى لقائه في الموعد وتخاف أن يفوتك أصغر مشهد منه . لا تعرف كيف استطاع أن يشدك إليه، لكنك مع كل حلقة تتأكد بأنك تتابع عملاً تتكامل فيه كل عناصر البطولة والتشويق والحبكة والإخراج .
كاسمه جاء مسلسل “الولادة من الخاصرة” حاسماً حاداً مؤلماً رغم أنه كان محيّراً، إذ عند الإعلان عنه احتار المشاهد هل يقبل عليه أم يهرب منه، فالاسم يوحي بالألم وبعمق قد يجنح في الدراما إلى الفلسفة والسوداوية كما يحصل في بعض المسلسلات . لكن المخرجة رشا شربتجي عرفت كيف تقطع علينا حبل الحيرة لتحسم الأمر بأخذنا إلى هذا العالم المليء بالحكايات المولودة من رحم الحياة لا من خيال الكاتب سامر رضوان الذي أبدع في رسم شخصياته على الورق كما نصادفها في الواقع . أما الشخصيات، فبعضها تشعر بأنه إنسان عربي بلا هوية محددة، يمكن أن يكون أنت أو جارك أو أحد معارفك، وبعضها الآخر يجسد المجتمع السوري والأحياء الشعبية التي يقال عنها “عشوائيات” وعلاقة المواطن بالسلطة .
كلنا تساءلنا في البداية ما معنى “الولادة من الخاصرة”؟ ومع كل حلقة كان الجواب يأتينا من مشهد أو حوار أو قصة إحدى الشخصيات، حتى اكتملت الصورة وشعرنا بأن كل ما في المسلسل هو ولادة من الخاصرة، ولادة قيصرية مؤلمة ترمز إلى انتزاع الحقوق التي لا يحصل عليها المواطن بسهولة، وانتزاع الحياة من قلب المعاناة والصراع وما يشبه الموت . كما يرمز إلى رغبة الرجل المتسلط في إنجاب ذكر يحمل اسمه ويتواصل نسله من بعده، ولو بالغصب وبإرغام زوجته الأولى على الإجهاض 6 مرات لأن الجنين أنثى .
قد يأخذ البعض على المسلسل جرعة الكآبة العالية فيه، لكن من يتابعه يتواصل مع الأبطال في مشاعرهم ويشعر بنفس ألمهم، وهنا يعود الفضل إلى المخرجة التي عرفت كيف تحافظ على الخيط الرفيع الذي يفصل بين بكاء النحيب غير المبرر والمبالغ فيه في مسلسلات أخرى، وبين بكاء القلب الممزق، خذ مثلاً “جابر” (قصي خولي) الذي لم يبك مرة إلا وأبكى المشاهد . والخيط الرفيع يفصل أيضاً بين صراخ العصبية المزعج، وصراخ الألم الذي تشعر أنه يخرج من صدرك لا من صدر “واصل” (سلوم حداد) .
يبدو أن رشا شربتجي التحمت مع أفكار وشخصيات الكاتب سامر رضوان، لذا ألبست كل ممثل الدور الذي يليق به، وأدخلتنا إلى عمق فقر البيوت العشوائية، وإلى الزنزانة المكتظة بالمساجين حيث يختلط البريء بالمجرم، وينامون فوق بعضهم بعضاً كالأسماك العالقة في شباك صياد ماهر، ويتبادل المصطفون على جدران الزنزانة الأدوار مع الممددين أرضاً في الوسط، والكل مرغم على أخذ الوضعية التي يأمر بها السجّان .
الخوف سيد الموقف، تراه في العيون وتسمعه في نبرة الأصوات وفي الكلمات وتلمسه من حركة الجسد . خوف من الأب، ومن الابن، ومن الأخ، وخوف من سلطة الفاسدين وبعض رجال الأمن، وخوف وحيرة من قول لا أم نعم، وخوف من الزوج الجبار المتكبر، وخوف من الفضائح . وكأن الكاتب أراد أن يظهر كم “التابوهات” أو الهواجس التي تتحكم بالناس وخصوصاً بالفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة، تجني عليهم الحياة فيجنون على أنفسهم وعلى أحبائهم رغماً عنهم .
تبحث عن البطل في “الولادة من الخاصرة” فتجد أنك أمام عمل يكاد يخلو من الكومبارس والكل بطل في دوره، حتى الكاتب تعتبره بطلاً في حسن حياكته لمجموعة القصص المتناثرة والتي عرف كيف يربطها ببعضها بلا خلل أو ملل، كما عرفت رشا شربتجي كيف تخرج من الممثلين أفضل ما عندهم .
من مميزات المسلسل أنه يقدم الشخصيات المتناقضة كأنه يرينا وجهي الأبيض والأسود، القوي والضعيف، المسالم والمتسلط . وهذا التناقض نلمسه بشدة بين شخصيتي زوجتي رؤوف (عابد فهد) سماهر (سلاف فواخرجي) العنيدة المتمردة صاحبة الإرادة، وشيرين (كندة علوش) المستسلمة والمترددة وضعيفة الشخصية . كذلك التناقض بين رؤوف المتسلط المخادع والذي يستغل نفوذه ومنصبه للبطش وتهديد الناس وإجبارهم على طاعته، وبين جابر (قصي خولي) الإنسان المسالم الذي يهرب من المشاكل ويحاول معالجتها بهدوء بعيداً عن الضوضاء والفضائح . والتناقض أيضاً في تناول شخصية زوجة الأب الحنون التي تحب زوجها وتخاف عليه بينما الشر يتجسد في ابن زوجها الذي يسرق والده ويحاول التخلص من زوجة أبيه، وهي صورة موجودة في الواقع لكننا نرى عكسها غالباً على الشاشة .
وهنا لا بد من التوقف عند قصي خولي الذي قدم أجمل أدواره في هذا المسلسل وتفوق على الباقين وهو يمشي مشية المكسور والمخمور، في قلبه غضب لا يفجره إلا بينه وبين نفسه وفي بيته، في ركضه خوف وفي بكائه شجن وفي غضبه بركان يتفجر بعد طول كبت . يوصل إليك إحساساً بأن الكلام عالق في حلقه كما يعلق العلقم في الفم .
“الولادة من الخاصرة” مسلسل ارتقى بأبطاله وبمشاهديه ليحاكي الواقع الذي لم يعد يقبل بالخداع .