2012/07/04
علي وجيه - تشرين
نقرأ في كرّاسة مهرجان دمشق المسرحي عن عرض «أناس الليل» الذي افتتح به باسم قهار عروض الدورة الجديدة، في إعداد عن رواية «ليلة القدر» للطاهر بن جلون: «أعمى يقع في حب كانت ولـ 23 سنة تُجبَر على أن تكون رجلاً.. قصة حب يختلط فيها الضوء مع العتمة، الذكر والأنثى، اليأس والأمل.. ليل طويل لا نهاية له ولا يعرف الضوء لكنّه يبصر الحب».
هي نافذة توصيفية بسيطة لقراءة العرض، تختلف عن النافذة التي أسدلها المخرج العراقي في الافتتاح، لتشكّل، على مدى العرض، بعداً زمنياً وعاطفياً ونفسياً مختلفاً لشخصياته، التي قد تكتفي بالمرور أمامها ضمن إحالات بصرية سيكولوجية مختلفة، وقد ترجع بالزمن «فلاش باك» لتعرية المزيد من تاريخها على خشبة القباني.
ثلاث شخصيات رئيسة، ثلاث غرف/ عوالم نفسية مبنية بسينوغرافيا السواد التي حاكت كل شيء. أعمى ملقّب بـ «القنصل» يعيش في عزلة مع أخت متسلّطة ومهيمنة على كل عالمه، وضيفة شابّة تغيّر بإقامتها مع الشقيقين قواعد اللعبة داخل المنزل الكئيب. يتقارب القنصل والضيفة التي تخفي في حياتها سرّاً غامضاً، فتشتعل غيرة الأخت وتخشى فقدان أخيها الوحيد، لتبدأ سلسلة من المكاشفات المتعلّقة بكلّ شخصية على حدة.
حب وأنانية
الأخت، التي تدير حمّاماً للنساء، وجدت نفسها وحيدة مع أخيها الأعمى، واكتشفت أنّ البقاء يتطلّب أكثر من مجرّد الصبر والجلد، فمنحت كل الحب (والأنانية) لأخيها، وكرّست الحقد والكراهية تجاه المجتمع الذكوري المحيط. حتى العلاقة الوحيدة التي أقامتها في حياتها كانت شنيعة ومقابل طلب مهين من الرجل، فتضاعف حقدها وعزلت نفسها عن الجميع لحساب التدّخل بالآخرين من خلال الطبخات النسائية التي تتمّ في بخار الحمّام النسائي ووسط رغوته.
الأخ الأعمى يبدو راضياً بالنظام الآلي الدقيق الذي وضعته الأخت، فكل شيء بوقت وحساب. تقوقع على نفسه ونسي العالم الخارجي وألوان الحياة.
الضيفة/ المحور، التي أراد لها أب تقليدي يحلم بإنجاب ذكر أن تكون كذلك فعاملها وحوّرها على هذا الأساس، أمضت 23 عاماً تتخبّط بين هواجس الأنثى الطبيعية وتربية الذكر الصارمة، بين الطبع والتطبّع والأصل والاكتساب، إلى أن تنكشف الأنثى تماماً من خلال قصة الحب التي تجمعها مع القنصل الضرير. هكذا، يرى الثلاثة أنّ للعتمة الكلمة الفصل في حياتهم وأرواحهم وجوانياتهم. وحده السواد يحكم عالمهم المهترئ في ليل غير منته. هم أناس الليل الذي يعيشون له وبه، ويتسترون بظلمته الحالكة لتغطية انكساراتهم وعطبهم النفسي والجسدي.
ورطة العرض
ورّط قهار عناصر العرض المسرحي في قراءته العميقة والموفقة لنص الروائي المغربي، توطئةً للخروج بنص مواز قابل للمسرحة واقتراح فرجة بصرية خاصة. وذهب إلى لعبة الضوء والعتمة مع تكرارات موسيقية رتيبة لإضفاء جو نفسي داعم على الصالة. الجسد مسخّر لمواكبة المنحى النفسي المتقلّب للشخوص بالتواءات حادة وردود فعل مباغتة مع الخلفية الموسيقية. الفيزيك مستغلّ للتركيز على جيستات متناقضة تبرز الحالات النفسية والتناقض والصراع بين الذكورة والأنوثة داخل الجسد الواحد، بين اليأس والأمل، الحب والكراهية، الانفراج والضيق.
أحد الحلول اللافتة التي لجأ إليها صاحب «تياترو» و«العربانة»، كانت تشخيص المعادل النفسي الذكوري للضيفة وتجسيده مادياً على الخشبة. أيضاً نرى من خلال النافذة التي تسدل أكثر من مرة نشأة الفتاة ومونولوغات والدها النادم، وذكريات «فلاشية» للشخصيات وفق الضرورة الدرامية وحاجة المخرج.
ربع الساعة الأخير إحدى المآخذ على العرض (مدّة العرض ساعة وربع)، فكان يمكن الاستغناء عنها مع معرفة مصير كل شخصية. ما فعلته الضيفة بنفسها قد يكون فيه بعض المبالغة، والنافذة الأخيرة «التهكّمية» نوعاً ما، كانت خارج السياق إلى حد ما، وفائضة عن الحاجة مع قول ما يمكن قوله قبلها. التكرارات الموسيقية التي تحيل إلى رتابة الحياة ودواخل الشخصيات كان يمكن تخفيفها في بعض المشاهد أيضاً.
توظيف الممثلين
قهار أحسن إدارة ممثليه وتوظيفهم، خصوصاً بالاشتغال على «الفحيح» في الصوت، فكان الأداء أكثر من جيد. حسام سكاف الذي عرفناه سابقاً في «الجمعية الأدبية» و«غيرة الباربوييه» لرأفت الزاقوت اجتهد لتقديم أداء مختلف تجاوز فيه نفسه فاستحق الإشادة. محمد ملص كذلك كان لافتاً بدور الضيفة/ الذكر، والاختلاف عمّا قدّمه سابقاً في عروض مثل «ميلودراما» و«الجمعية الأدبية» من أهم ما يحسب له. فيحاء عبد الحميد ورائفة أحمد وعدنان عبد الجليل، كلهم ظهروا بصورة لافتة على الخشبة كذلك.
عموماً، «أناس الليل» بداية موفقة لمهرجان دمشق المسرحي، قدّم فيه باسم قهار صورةً مختلفة وخاصة ضمن عرض جيد، لم يخيّب آمال الحشود التي ملأت صالة القبّاني محدودة العدد مختنقة الهواء.
بطاقة العرض:
مسرحية «أناس الليل» عن رواية «ليلة القدر» للطاهر بن جلون
إعداد وإخراج: باسم قهار
تمثيل: رائفة أحمد – عدنان عبد الجليل – حسام سكاف – فيحاء أبو حامد – محمد ملص – يمن الحموي.
تصميم إضاءة: بسام حميدي
تصميم ديكور: وسام صبح
تصميم أزياء: ظلال الجابي
مكياج: هناء برماوي
مخرج مساعد: ضياء عيسمي
إنتاج المسرح القومي في سورية 2010