2012/07/04
آنا عزيز الخضر - الثورة
ثنائيات تتقابل وتتناقض في الحياة، تغري دوماً القائمين على الأعمال المسرحية، لتجسد المعادل الدرامي الأهم الذي تعتمده دراماها، حيث يمكنها بخصوصيتها وماهيتها اختصار المسافات
والمفاهيم والمقولات عدا عن إغناء العرض المسرحي بمعطيات جزلة تخلق عوالم من التحديات والمفارقات والاكتشافات،وعبر العلاقات الجدلية توجه الحوارات، فتدفع بالصراعات التي تستمر وتتصاعد فتستفز شخوصها بالشكل المطلوب في كل الاتجاهات، هذا المشهد يجسد الإسقاط الحقيقي لعرض (المنفردة) والذي يعاد عرضه في الوقت الحالي على صالة مسرح العمال بدمشق ضمن فعاليات مهرجان (سنا) الثقافي.
وقد لاقى العرض نجاحاً متميزاً باختزاله جماليات بصرية وحسية وفكرية، برزت في مجمل مفرداته وعناصره المسرحية، وخصوصاً أنه رحلة آخاذة عبر اكتشافاته للذات الإنسانية ضمن الشروط المتعددة، إذ تقابل في العرض (المنفردة) الضحية مع الجلاد،السجان مع السجين الظالم مع المظلوم، إنهما عالمان من التناقض، يتضافران والصراعات خطوة بخطوة وفعل إثر فعل درامي، مشهد يختزل الكثير قضى بذلك العرض بقصد وعن ذكاء لخلق عوالم مفعمة بالتفاعل والأحاسيس والمشاعر المتضاربة حيناً والمتطابقة حيناً آخر، فهنا اجتمع (نوار بلبل) أبو نضال مع السجان (رامز أسود) مهنا عبر شكل من العلاقة التي تتضارب فيها المصالح والأهواء والأهداف لكن تطابقت عندها المعاناة الإنسانية، بعد أن أتاح تقابل الأضداد خلق مساحات درامية مكنت العرض من الغوص عمقياً في الحالات كافة، بأبعادها الإنسانية ومراميها الدرامية، لأن ذاك التقابل حالة انطلق بها العرض لكشف الكثير من المحطات والقضايا
بمشكلاتها وخباياها وأسرارها، كما تقدمت مبررات لأسباب ونتائج في حالات إنسانية واسعة وشاملة تضمنت الظالم كما المظلوم لأن سرد الشخصيات وحواراتها قد انسابت عبرها المواقف كما الرؤيا من الحياة والناس فـ (أبو نضال) ومهنا شخصيتان تقدمان بوحاً إنسانياً لم يرتهن للشرط الظرفي الذي جمعهما بل انطلق بحرية متأثراً بالشرط الإنساني ويتكرر الفعل اليومي، فمن جلسات تعذيب يمارسها (مهنا) والتي تشكل استمرارية لحالة عمرها أكثر من أربع سنوات يقوم بها من أجل الضغط على (أبو نضال) للتراجع عن مبادئه والتوقيع على ورقة يؤكد فيها ذلك أما الأخير يرفض،لم ندرك إن كان السبب ضغوط زوجته المتطرفة أم بسبب موقفه الصامد، لأنه مع تصاعد الأحداث المسرحية، تفترش المأساة مساحة واسعة من العرض، حتى من قبل الطرفين يبدؤها أبو نضال ليوضح عذاباته لفراق أولاده وحاجتهم إليه في الحياة، ومعاناته التي تتراكم وهو عاجز عن فعل أي شيء، فالعرض يبرز هذه المعاناة بشكل إنساني مجرد، يعريها ويظهرها بالشكل الحيادي الذي يعمقها بغض النظر عن توجيه المواقف أوإملائها، كي نكون كمتلقين (مع أم ضد).
كما أن السجان نفسه قدم بدوره بوحه لتنساب معاناته أمامنا، ليبدو في بعض الأحيان أن تصرفاته هي رد فعل على حرمانه المزمن، ورغم أن حياته تتغير وتتغير معها طموحاته وأحلامه أيضاً حالته الجديدة يتربص بها الحرمان، تتبادل الشخصيات الأدوار،والمعاناة لم تتبدل، وهذا السرد يعاد ويتكرر بعد كل محطة تعذيب، يومية وتتحول العلاقة بين الاثنين إلى علاقة عادية في منتهى الإنسانية، حيث يشعر كل منهما بمأساة الآخر بل ويكون هناك مشورة وشكوى وبوح حنون، رغم الاختلاف الصارخ وقد استفاد العرض من مزايا الاختلاف الذي كان بمثابة الكاشف الحقيقي للحقائق والوقائع والظروف الحياتية التي ينقصها الكثير كي ينعم الإنسان في ظلها بشروط تحترم إنسانيته، وقد أوصل العرض مقولته ضمن صيرورة مسرحية متقنة في بنائها الدرامي وتفاصيلها ثم بناء شخصياتها وحواراتها، مضافاً إلى فضاء مسرحي شغلته اكسسوارات تجسد القيود، في كل حركة وكل فعل ضمن فراغ مقيت ومحزن، كما تمكن العرض من إيصال تساؤلات عديدة حول الشروط الحياتية والظرفية المثلى التي تنتفي فيها كل هذه المأساة والتناقضات، والتي فضحتها معاناة الطرفين الإنسانية على تضادهما