2012/07/04
سامر محمد إسماعيل- تشرين دراما
يشكل المكان في الدراما التلفزيونية المعاصرة بنية أساسية في تكوينات العمل الدرامي السوري، حيث لا تستطيع
الساعة الدرامية أن توجد لها موطئ قدم من غير اللجوء إلى تكوينات المكان وجغرافيته، بل لنقل إن «المكان» أصبح
هوية بصرية للعمل الفني لابد من حسن اختيارها وتحديد عناصرها، وهذا ما يحسب للدراما السورية في خروجها
المبكر من الاستديو المغلق إلى براح الأمكنة السورية مع كاميرا هيثم حقي لاسيما بعد الفتح الذي حققه باستخدام
الكاميرا المحمولة «أوريكون» والتي كانت تستخدم لتصوير الأخبار في إنجاز الأعمال الدرامية، خارجاً بها من برودة
الاستديوهات الكبيرة في التلفزيون السوري إلى الأماكن الحقيقية، بل إلى الحياة الحقيقية، وبشر هذه الحياة،
وواقعيتهم أمام كاميرا ذكية حساسة بالتقاطها للضوء و تعاملها مع ظروف عربات النقل الخارجية، فتحقيق رهان
«حقي» على كاميرا الكتف وعربات النقل في أعمال عديدة كان أهمها «حرب السنوات الأربع 1985 تأليف وإنتاج داوود
شيخاني، و «غضب الصحراء» عن نص هاني السعدي-1987 كان تأكيداً على جوهرية المكان في بنية العمل الفني
السوري.
:يشكل المكان في الدراما التلفزيونية المعاصرة بنية أساسية في تكوينات العمل الدرامي السوري، حيث لا تستطيع
الساعة الدرامية أن توجد لها موطئ قدم من غير اللجوء إلى تكوينات المكان وجغرافيته، بل لنقل إن «المكان» أصبح
هوية بصرية للعمل الفني لابد من حسن اختيارها وتحديد عناصرها، وهذا ما يحسب للدراما السورية في خروجها
المبكر من الاستديو المغلق إلى براح الأمكنة السورية مع كاميرا هيثم حقي لاسيما بعد الفتح الذي حققه باستخدام
الكاميرا المحمولة «أوريكون» والتي كانت تستخدم لتصوير الأخبار في إنجاز الأعمال الدرامية، خارجاً بها من برودة
الاستديوهات الكبيرة في التلفزيون السوري إلى الأماكن الحقيقية، بل إلى الحياة الحقيقية، وبشر هذه الحياة،
وواقعيتهم أمام كاميرا ذكية حساسة بالتقاطها للضوء و تعاملها مع ظروف عربات النقل الخارجية، فتحقيق رهان
«حقي» على كاميرا الكتف وعربات النقل في أعمال عديدة كان أهمها «حرب السنوات الأربع 1985 تأليف وإنتاج داوود
شيخاني، و «غضب الصحراء» عن نص هاني السعدي-1987 كان تأكيداً على جوهرية المكان في بنية العمل الفني
السوري.
لقد كان «غضب الصحراء» بأجوائه الجاهلية وشكله المختلف على صعيد الديكور والإكسسوار والملابس نقلة نوعية،
استطاع من خلالها صاحب فيلم «الأرجوحة» مباركة أسلوب جديد من أساليب الإخراج سواء على صعيد التقنية
الجديدة أو حتى على صعيد فضاء الحكاية وتحررها من الزمن التاريخي الصرف، وسط كيمياء جديدة لفنتازيا بصرية
وضعت المكان نصب أعينها، فمن جهة لم يعد الاستديو مكاناً، ومن جهةٍ أخرى تحررت الرؤيا الفنية للمخرج التلفزيوني
من محدودية الخيارات المتاحة داخل جدران العزل الصوتي الاصطناعي.
من هنا بدأت الدراما السورية بالالتفات إلى ضرورة صياغة أمكنتها الجديدة، وهي أماكن عاكست تماماً المدرسة
التلفزيونية المصرية التي حافظت على قداسة الاستديو الداخلي، بل بالغت في ذلك عبر بناء مدينة كبرى للإنتاج ما
زال المصريون حتى الآن حيارى في كيفية الاستفادة منها، هكذا انطلقت عجلة الإنتاج الدرامي السوري حاملةً معها
بذرة فرادتها، فالمكان ليس من عناصر الزينة البصرية بقدر ما هو الحامل المادي للصورة وتجلياتها، وما استطاع المكان
أن يهبه للصورة في الدراما السورية كان أكثر من المتوقع، سواءً على صعيد محايثة البيئة المحلية والتقاط همومها
الراهنة، أو حتى من خلال مكاشفة ماهرة لواقع الحال، لقد بدأت الدراما عبر هذا الفهم تكوّن فكرةً عن المجتمع
السوري الناهض مع بداية الثمانينيات من القرن الفائت، متخذةً من المكان السوري -على عريض هذه الكلمة
وعموميتها- مناخاً بصرياً و طرحاً موضوعاتياً جديداً في نكهته وفي قدرته على سبر المعيش اليومي الحياتي بعيداً عن
برجزة الصورة الوهمية عن الحياة بكل مفاعيلها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية داخل أبواب الاستديو، فكانت أعمال
كل من هيثم حقي ونجدة اسماعيل أنزور وباسل الخطيب وحاتم علي نماذج عن بطولة المكان في الدراما السورية،
لكن على درجات غير متساوية، فهيثم حقي قدم «هجرة القلوب إلى القلوب» و «خان الحرير» و«الثريا» و«ذكريات
الزمن القادم» كوثيقة تاريخية معاصرة عن التحول الاجتماعي في بنية المجتمع الجديد، فيما فضّل «إسماعيل أنزور»
بعد تقديمه ل «نهاية رجل شجاع» و« أخوة التراب» أن يجنح نحو صورة سياحية عن المكان السوري في أعمال وصفها
النقاد بالفنتازيا التاريخية، إلا أن فكرة أنزور عن العمل التلفزيوني كانت تصب أيضاً في إطلالة لابد منها على مشهد
عريض من البيئة السورية كان لابد من الإحاطة به، جغرافية متنوعة بجمالية عالية لامست ذائقة شريحة واسعة من
الجمهور المحلي والعربي.
على مستوى آخر قدم باسل الخطيب صورة مغايرة للمكان دامجاً بين جمالياته الجغرافية وبين خصوصية البيئة
السورية فجاء مسلسله «هوى بحري» على هيئة استعارات متتالية من مشهد بحري مفتوح على حكايات خرافية
رمّزت الواقع وأسقطت عليه إحالات متعددة، ليس الواقع بل فكرتنا عنه، فيما نجح حاتم علي في استدراج صورة أكثر
غنى وواقعية عبر المكان، مراهناً على واقعية الطرح ومسافته من المعيش، فرغم أن سلسلة «الفصول الأربعة» كانت
تختار بيئة شبه افتراضية لعائلة سورية متنورة تعيش حكاياتها بمعزل عن الشارع وهمومه، إلا أن «علي» تنبه إلى
ضرورة تكثيف المكان داخل كوادره من خلال أعمال صوّرت الناس في المدن والأحياء السورية، فمن « أحلام كبيرة»
إلى « عصي الدمع» إلى «على طول الأيام» وصولاً إلى «التغريبة الفلسطينية» صمم حاتم علي على مبارزة المكان
من خلال زج مكونات الشارع في صلب العملية الفنية، فخرج «بتغريبته» هذه عن كل قواعد الفرجة الاعتيادية آخذاً
على عاتقه اكتشاف علاقة البشر في أماكن عملهم ونزهاتهم وضجرهم.
الاكتشاف الأبرز لبطولة المكان كان مع مسلسل «الانتظار» للمخرج الليث حجو حيث دأب هذا الأخير على إعطاء
المكان بطولة مطلقة في أعماله فكان «الانتظار» بمثابة نسخة مصدّقة عن الحياة السورية المعاصرة، حياة التقى
عبرها سكان الهامش الاجتماعي والعمراني ببشر المدن المنظّمة، فلم تعد الصورة تأخذ مسافتها الدرامية التقليدية
خاصةً في سلسلة «بقعة ضوء» المسلسل الكوميدي الذي أخذ الأمور إلى نهاية أكيدة مع مجاملة الكوادر النظيفة، إذ
لا كوادر نظيفة في أعمال الليث حجو، ولا مهادنة مع وضع «المكان» كنجم من نجوم الصف الأول، ولذلك اتبع «حجو»
صياغة جديدة مع تأطير الكادر خالصاً إلى إبداعات نوعية مغايرة من الأعمال الدرامية أطلق عليها البعض «دراما
العشوائيات». حيث جاء هذا النوع من الإنتاج الفني الجديد ليؤكد أحقيته داخل خارطة الصورة التلفزيونية، ليتمكن هذا
الطرح من تعبيد طريق مختلفة لمسار الكاميرا الجديدة، الكاميرا القادرة على قياس نبض الحياة اليومية من دون اللجوء
إلى مكياج للصورة، أو محاولة طمسها وتزويرها. تماماً كما فعل «الليث» في مسلسل «ضيعة ضايعة» حيث استطاع
تجنيب السياحي لصالح الواقعي، عاكساً عبر وسيط نصي كوميدي مفارقات عالية في بيئة الريف السوري، وفي
معالقة استثنائية بين الافتراضي والواقعي نجح «ضيعة ضايعة» في ملامسة هموم كثيرة عبر سخرية مريرة من رموز
أحالت المشاهد على اختلاف شرائحها إلى واقع آخر يختبئ خلف الصورة والمكان في آنٍ معاً.
على مستوى آخر يمكن مشاهدة نكوص للمكان في الدراما السورية عبر ما أطلق عليه البعض بدراما البيئة الشامية،
فالأعمال التي قدمها بسام الملا« و سيف سبيعي» في «باب الحارة» و«ليالي الصالحية» و«أهل الراية» وسواها
جنحت نحو تقديم صورة سياحية بحتة عن المكان، بل استعانت بالرجوع إلى الاستديو لإعادة المكان إلى سجن
بصري مسرحي وفلكلوري، «فالشام العديّة» في هذه النوعية من الأعمال هي سواها في أعمال أخرى، وإذا ما نحينا
هنا وجهة النظر الفنية جانباً سنصبح أمام إعادة وتكرار لانهائيين للمكان، فالكادر شبه ثابت على بيت دمشقي من
الطراز العثماني، صورة «لبحرة أرض الديار» والزجاج المعشق وواجهات بيوت مستعارة، ترويسة من «قرية شامية»
تعيد الكاميرا تغيير زوايا التصوير عليها من دون ملل أو كلل.
في الأعمال التاريخية استطاعت الكاميرا أن تستفيد أيما استفادة من المكان السوري كاستديو كبير يمتد من البادية
إلى غابات اللاذقية، ومن حلب إلى سهول حمص، إلى القلاع والمواقع الأثرية في جنوب سورية وشمالها، ورغم
تفضيل بعض المخرجين السفر إلى المغرب العربي لتصوير مشاهد كبيرة من أعمالهم التاريخية، إلا أن صحراء تدمر
أثبتت مؤخراً قدرتها على المنافسة، وتوفير جهد ومال كبيرين في مواقع التصوير المغربية، فاستطاع حاتم علي أن
يصوّر ثلاثية «الأندلس» بين المغرب ودمشق، وتمكن نجدة أنزور من تسجيل أجزاء كبيرة من التصوير في البادية
السورية والمغربية على حدٍ سواء، لكن ما أريد قوله أن المكان ظل في هذه الأعمال فيصلاً في تقرير مصير نجاحها، بل
لنقل إن المكان هو المحرض الأول لمتابعة المشاهد العربي قبل المحلي، والذي انبهر أيما انبهار بطاقة المكان
السوري على المنافسة الجمالية البصرية، وتقديم خيارات فنية لا نهائية في الدراما السورية المعاصرة.