2013/05/29
تشرين – فنون
ما يبدعه الكاتب من أجواء وصور أدبية تنتمي إلى عالم الأدب، بينما عالم الصورة التلفزيونية والسينمائية يقدم هذه الصورة, ومحاولة إيجاد تطابق بين العالمين مستحيلة لأن طبيعة كل صورة تستلزم تصوراً مختلفاً،
لكن يبقى الجوهري والأساسي الذي يجمع بينهما, فالكاتب الكبير حنا مينه يستمد صور أعماله الروائية الجميلة والواقعية من تصوره الفني للواقع الاجتماعي, وهنا يستمد التلفزيوني والسينمائي تصور الواقع الاجتماعي من خلال رؤية الكاتب الأدبية, وتتجلى مأثرة حنا مينه أن أدبه يمنح فرصة مواتية ومفتوحة للتلفزيون ليكون أمام صورة سورية جديدة، من خلال عرض عوالم حنا مينه, فهو شيخ من كتب في العالم العربي عن البحر لذلك أطلق عليه أديب البحر, وتجلى ذلك في أعماله الروائية «الشراع والعاصفة, الياطر, والانبوسة البيضاء»، وثلاثية البحر «حكاية بحار، الدقل, والمرفأ البعيد»، وصولاً إلى «نهاية رجل شجاع». وماتعرض له الدراما السورية لهذا الموسم من أدب المبدع حنا مينه, تختلط فيه عوالم حنا مينه الكلاسيكية من أدب البحر, ويضاف إليها عوالم مدينة اللاذقية الجبلي من خلال قرية في هذا الريف, وكل ذلك يقع في ظل الاحتلال الفرنسي لسورية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية, وبعدها. إن هذه العوالم الثلاثة متداخلة فيما تعرضه للدراما السورية في هذا الموسم من خلال العمل الدرامي «المصابيح الزرق» المأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته, حيث قام الشاعر والكاتب محمود عبد الكريم بإعداد السيناريو والحوار لهذا العمل, وأخرجه فهد ميري.
يجدل الروائي مينه في روايته المصابيح الزرق هذه الخطوط الثلاثة بمهارة عالية, وأيضاً عمل الشاعر محمود عبد الكريم على تظهير وإظهار هذه الخطوط الدرامية بشكل واضح إذ ينتمي «عبد القادر, أبو فارس وفارس, وأبو رزوق, وميسو ماركوني»، إلى عالم البحر, المتداخل مع سكان حي القلعة, إضافة إلى ما سبق (محمد الحلبي, غسان مسعود)، و(رندا, سلاف فواخرجي)، و(مريم, رناجمول)، و(نايف, محمد حداقي)، و(المختار, جرجس جبارة), و(زوجة أبو رزوق, ضحى الدبس)، ويظهر أيضاً بعمل الدخان «الريجة»، ومديره بشار اسماعيل، والذي يعمل فيه عدد كبير من بنات اللاذقية وبنات الريف أيضاً، وصاحب المقهى في الحي القريب من البحر (أبو خليل, فادي صبيح), وتضاف إلى هؤلاء الشخصيات الرسمية مثل المجلس البلدي, والمستشار الذين يمثلون الجانب الرسمي من سلطة الاحتلال وامتداداتها الأهلية في مدينة اللاذقية, وإلى جانب هؤلاء تقف كتلة الريف اللاذقاني في مقدمتهم الفنان «محسن غازي» وأبناء قريته الذين يعملون في زراعة الدخان.
الصراع في المصابيح الزرق
يظهر الصراع في العمل الدرامي «المصابيح الزرق» أولاً مع المستعمر الفرنسي من خلال صراع «عبدالقادر, سعد مينه» و«محمد الحلبي», كجزء من القوى السياسية السورية التي تخوض معركة سياسية مع حكومة المستعمر الفرنسي لانتزاع الاستقلال بعد معاهدة 1936 التي أعطت سورية نوعاً من الحكم الذاتي، لكن ظرف الحرب العالمية الثانية أعاد إلى البلاد السورية الأحكام العرفية وآليات التعامل الاستثنائية من القوانين الفرنسية, ويضاف إلى هذا الصراع الانتماء الطارئ للمحاور الدولية التي تتصارع, فمن جهة الحلف الألماني الإيطالي في مواجهة المحور «الفرنسي»، وامتدادات كل محور على المستوى العالمي, نجد أن العديد من سكان مدينة اللاذقية يتمنون فوز هتلر والدوتشي في هذه الحرب لكي تتحرر سورية والعديد من الدول العربية وفي مواجهة هؤلاء رجالات سلطة الاستعمار الفرنسي من المختار إلى مدير معمل الدخان إلى أعضاء المجالس البلدية، ونلحظ قدرة الروائي حنا مينه على إبراز العلاقات الاجتماعية ونظام القوى والعلاقات الرسمية وشبه الرسمية في الشروط الزمكانية الموجودة في سورية, وفي مدينة اللاذقية, وهذا ما جاء في رواية المصابيح الزرق إن هناك «من يدافع عن الأثرياء باعتبارهم زعماء الحي, وكان المختار, وأعضاء الهيئة الاختيارية أشد الجميع تملقاً لهؤلاء الزعماء, وأسبق الكل للدفاع عنهم». ونشاهد هذا التملق في اجتماع المجلس البلدي حول الإجراءات التي ينبغي اتخذها في زمن الحرب والأحكام العرفية، حيث يخاطب الجميع «جمال أفندي» بأنه يجب أن تأخذ هيبة المستشار بأول القائمة, وكل واحد منكم (أي كل مختار) مسؤول عن حارته.
وأيضاً يظهر لدينا جزء من الصراع الطبقي في العمل الدرامي «المصابيح الزرق» حيث يتصدى فلاحو الريف الجبلي إلى عسف أدوات الاستعمار المحلية مثل مدير الريجة (بشار اسماعيل) عندما يشتري الدخان من هؤلاء الفلاحين حيث يصنف دخان «عليا صخور» بالنخب الثالث, ويسعره بأدنى الأسعار في جدول أسعار الدخان الذي تشتريه الحكومة الفرنسية ومندوبوها المحليون من الفلاحين السوريين, ويتابع بشار اسماعيل شراء الدخان من جميع الفلاحين بالتصنيف ذاته حتى يصل دور الفلاح «محسن غازي» الذي يرفض ويسخر من المدير الذي لا يرضى إلا بالسعر الموحد الذي وضعه المدير, لذلك يضرب غازي ومجموع فلاحي القرية المدير ومجموعة من رجاله, ويتعاطف مع الفلاحين في هذه المعركة النساء اللواتي يعملن في معمل الريجة.
وإلى جانب هذه الصراعات نجد الصراع الذي يدور بين(مختار حي القلعة, جرجس جبارة)، وأهالي الحي حول إخفاء بطاقات الدعم التي توزع في الأحياء من مكاتب المخاتير, وأن هذه التجمعات تعمق صراع الأهالي السوريين مع أذناب الاحتلال الفرنسي, وأيضاً الصراع داخل الصف الأهلي مثلما نجده بين رواد المقهى الشعبي الذي يديره أبو خليل خصوصاً الثنائي العاطل عن العمل الذي يستدين مشروبه من صاحب المقهى,ونلاحظ صراعاً في الكباريه بين الإيطالي «ماركوني, جمال قبش»، ومجموعة من الضباط و الفرنسيين الذين يسهرون في الكباريه حيث يحسب ذاته ماركوني على النازية والفاشية، بينما الضباط والمديرون الفرنسيون يحسبون على حكومات بلادهم، إن خطوط الصراع مفتوحة في العمل الدرامي المصابيح الزرق تتطلب متابعة المسلسل إلى نهايته لكي نتعرف إلى كيفية حسم هذه الصراعات القائمة في العمل, وعلى أي من خطوط الصراع التي سوف تقدم لتصبح هي المركزية والمهمة الأساسية أمام الشعب السوري في وجود الاحتلال الفرنسي، وهكذا يمضي العمل الدرامي المصابيح الزرق نحو إتمام عروض الحلقات الأخيرة ليتمكن المشاهد من معرفة نهايته ولاسيما للذين لم يقرؤوا رواية المصابيح الزرق للروائي المبدع حنا مينه, ومن المفيد التذكير أن هذا العمل النوعي من إنتاج المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي في سورية, وهي تمثل قطاع الدولة في الإنتاج التلفزيوني.