المصابيح الزرق.. امتحان آخر للرواية السورية

عمر محمد جمعة - العث

على الدوام كانت الرواية السورية من حيث موضوعاتها وبنائها الفني والتجديد في مكوّناتها السردية والمكانية والزمانية، إضافة إلى الشخصيات التي قدمتها، في طليعة الروايات العربية، بل اكتسبت خلوداً ومعرفة ومشاهدة أكثر بعد تحويلها إلى أعمال درامية، لم تبدأ برواية "الله والفقر" لصدقي إسماعيل التي تحوّلت إلى "أسعد الوراق"، مروراً برواية فارس زرزور "وعاد بخفي حنين" التي تحوّلت إلى "السنوات العجاف"، وروايتي خيري الذهبي "البسطاء" و"حسيبة" ورواية ألفة الإدلبي "دمشق يا بسمة الحزن"، ولن تنتهي بروايات حنا مينة "نهاية رجل شجاع" و"الشمس في يوم غائم" و"الشراع والعاصفة" و"المصابيح الزرق" وسواها.

لقد شكّلت الرواية السورية امتحاناً حقيقياً لمقدرة العاملين في الحقل الدرامي، وبات التحدي أكبر إذا علمنا أن هذه الرواية التي قوبلت بتلقٍ عالٍ كعمل مقروء، ستغدو بميزان المشاهدة البصرية أكثر قبولاً وتلقياً، وستحدّد فيما إذا نجح الكاتب والمخرج في تقديمها بما يليق بمكانة الرواية السورية، ويحفظ لها هذه المكانة وينأى بها عن التحريف والإسفاف والابتذال، وتفريغها من مكوناتها ومحتوياتها الأدبية والإبداعية والإنسانية.

ولعل الامتحان الأخير كان مع رواية "المصابيح الزرق" لحنا مينة التي تحوّلت إلى مسلسل بالاسم نفسه، كتب السيناريو له الكاتب محمود عبد الكريم وأخرجه فهد ميري، وتبنّته كاملاً مؤسسة الإنتاج التلفزيوني والإذاعي ضمن خطتها في تقديم أعمال سورية بسويات عالية وموضوعات تضيف جديداً ومختلفاً للمنجز الدرامي المحلي.

يجمع "المصابيح الزرق" بين أنواع متباينة متفقة من الدراما في نواظمها العامة، إذ يستطيع المتابع أن يرى فيه دراما تاريخية ذكّرت بحقبة تاريخية معيّنة، أو دراما بيئة ساحلية بالنظر لطبيعة الجغرافيا والمكان الذي تدور الحكاية في فضائه، أو دراما اجتماعية ذلك أن المسلسل سلّط الضوء على معاناة شرائح من المجتمع السوري في المنطقة الساحلية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تدور الأحداث في الفترة مابين بين 1939- 1945 فترة نضال السوريين ضد الاحتلال الفرنسي، وآثار تلك الحرب على شخصيات العمل وبيان حالة الإذلال والظلم والاضطهاد والفقر، والعلاقات الاجتماعية والفكرية والسياسية المتشابكة المتشعبة التي تربط بينها.

إن اجتهاد كاتب السيناريو والمخرج على حدّ سواء وسعيهما لخلق ملحمة وطنية تلفزيونية، بزعمنا، كان بادياً وجلياً عبر اختيار الأمكنة التي تقارب روح الرواية وحكايتها الأصلية، واختيار الفنانين الذين أُسندت لهم الأدوار الأولى، والأخرى الثانوية أو المساعدة، وشدّ الحوار ما أمكن والذي بدا في بعض مفاصله مترهلاً بسبب من طول بعض المشاهد، والوقوف عند بعضها بتركيز لا مبرّر له، إذ من غير المقبول مثلاً أن تستهلك مواويل "أبو فارس" جزءاً كبيراً من الحلقة، أو أن يستحوذ "أبو رزوق" على حركة الكاميرا دوناً عن بعض الشخصيات الأخرى التي تتحرك معه وتشاركه المشهد نفسه.

وبالطبع لم يفتتن الكاتب والمخرج بالرواية أو يقعا تحت غواية سردها، بل حرراها - بأمانة- من سكونيتها كنص طويل مقروء نحو مشهديات بصرية عمّقت المقولة الأساسية للرواية، ونفخت الروح في شخصياتها المترعة بالحزن والخيبة والألم والحزن ومرارة الخضوع للاحتلال، وحافظت على الزمان دون أي انزياح، ومنحت المكان خصوصية حضرت بقوة في جميع المشاهد، سواء كانت ضمن الخان أو البيوت الريفية، أو تلك المتاخمة للبحر، مشيرين إلى سعي أسرة المسلسل إلى تقديم عمل متكامل برؤاه الفنية والإبداعية كافة.

على أنه ثمّة عوامل أخرى ساهمت في إنجاح العمل، إذ لا يمكن التغافل أو القفز عن الأداء العالي لنجومه بدءاً من سلاف فواخرجي الشخصية الوطنية العاشقة التي تتأثر بالاحتلال الفرنسي لسورية، وتتقاذفها المشاعر الرومانسية والوطنية، وقد جسّدت فواخرجي شخصية "رندا"، بكل أبعادها وتناقضاتها، وظلت أسيرة حيرتها في أن تختار الحبيب وتفقد الوطن أو تختار الوطن وتفقد الحبيب.

أما الفنان أسعد فضة الذي أدّى دور صاحب الخان "أبو فارس" الرجل الطيب الذي يحب مساعدة البسطاء ويستضيف في الخان عدداً من الأسر الفقيرة الهاربة من الظلم والاضطهاد، فقد كان بحق مرتكز العمل الذي تدور حوله معظم الشخصيات، ما يجبرك على المقارنة بين أدائه الرفيع وتقمصه لروح الشخصية وأداء بقية الممثلين الآخرين. وبالقدر ذاته ظهر أداء الفنان غسان مسعود الذي أدى في العمل شخصية "محمد الحلبي" البطل الشعبي بما يحمل من رجولة واعتداد بالنفس.

ولعل اللافت أيضاً في الشخصيات الأخرى هو الكاركتر الذي أبدعه الفنان زهير رمضان حين جسّد شخصية "أبو رزوق" بطل المغامرات والقصص الخيالية التي عاشها في مغتربه بالأرجنتين، هذا الكاركتر الذي لا يقل أهمية وإقناعاً عن كاركترات سابقة اجتهد وأبدع فيها زهير رمضان كـ"أبو جودت" في باب الحارة، و"المختار بيسه" في ضيعة ضايعة، وكاركتر "مريم السودا" المركب والمعقّد الذي أدّته الفنانة رنا جمول وهي إحدى نزيلات خان "أبو فارس" مع زوجها الإسكافي "نايف"، حيث أظهرت جمول مقدرة عالية في القبض على سمات وملامح شخصيتها، كالرغبة المستبدة في افتعال المشكلات، وسلاطة اللسان، والمزاج العصبي حدّ الإفراط، وعلى النقيض منه القلب الحنون الطيب، الذي يدفعها رغم الشقاء والبؤس والحاجة إلى التكاتف مع زوجها، وإضفاء حالة من التفاؤل قسراً على حياتهما.

نجزم أن الامتحان الذي خاضه طاقم العمل بقيادة المخرج فهد ميري كان امتحاناً ناجحاً بمقاييس ومعايير بعضها مطلق والآخر نسبي، حدّدته طبيعة وبعض المصاعب التي تواجه السيناريست عندما ينوي نقل رواية من الحالة المقروءة إلى حالة المشاهدة البصرية، والتي قد تستغرق أكثر من ثلاثين حلقة، ولاسيما مع روايات كاتب كبير كحنا مينة تتسم بكثافة الأحداث وتعدّد المستويات السردية والشخصيات المتنامية فيها، غير أن هذا الامتحان الناجح، كما المنجز الدرامي السابق الذي استند إلى أسماء وتجارب روائية سورية، يستدعي أن يلتفت مخرجونا إلى الكثير من الروايات السورية التي تستحق فعلاً أن يراها جمهورنا في مسلسلات محلية سترتقي بالتأكيد بدرامانا وترفع سقف المنافسة مع الدراما العربية بألوانها وأشكالها وموضوعاتها المختلفة.