2012/07/04
جوان جان - الثورة
منذ نشأتها الأولى أخذت الفضائيات العربية توجد لنفسها مسارب تعتاش منها وتعتمد عليها في لغة تواصلها مع المتلقي، فمنها من اعتمد اعتماداً كليّاً على الدراما التلفزيونية،
ومنها من خصص كامل بثّه لعرض الأفلام السينمائية، وبعض ثالث كانت الرياضة مفتاحه لولوج أوسع ساحات المتابعة العربية، لكن ما يصيب المرء بالدهشة حقاً هو اعتماد عدد من هذه الفضائيات على أرواح ودماء الآخرين للاستمرار والديمومة، إلى درجة أخذ يعتقد فيها الناس أن هذه الفضائيات لا يمكن أن تستمر إلا بضخ مزيد من الدماء العربية في أوردتها، دماء وكأنها سُفِكت فقط كي تنام هذه الفضائيات قريرة العين مرتاحة الضمير .
والواقع أن طبيعة اعتماد بعض الفضائيات في استمرارها وازدهارها على أرواح الآخرين ودمائهم تأخذ أكثر من شكل، منها ما كان محدوداً ومتواضعاً كأن يتم التركيز على رحيل شخصية ما معروفة ومشهورة بظروف غامضة كي يكون هذا الرحيل مادة خصبة تستمر الفضائية باستهلاكها عاماً بعد عام، وهو ما جرى مع قضية رحيل الفنانة سعاد حسني قبل عشر سنوات، إذ لا زالت حتى اليوم بعض الفضائيات العربية تهتم بهذا الموضوع وتصنع البرامج الخاصة به والتي تحاول من خلالها اجتراح نظريات جديدة حول حادثة الرحيل التي لا زال البعض يؤكد أنها ذات طابع جرمي، بينما يعتقد آخرون أنها مجرد حادثة انتحار، أما أصحاب الخيال الواسع فما زالوا يربطون موضوع الرحيل بأبعاد سياسية واسعة النطاق، فيما يرجّح آخرون أن الموضوع ليس أكثر من حادثة فقدان توازن من على شرفة منزل الفنانة في العاصمة البريطانية لندن .
وبغض النظر عن سبب الوفاة الذي حُسِم في التحقيقات الرسمية البريطانية لكنه لم يُحسَم في أذهان الكثيرين من معارف الراحلة الكبيرة فإن بعض الفضائيات، المصرية تحديداً، ما زال حتى الآن يتاجر بالقضية ويفتح ملفاتها التي يستنتج من يدقق بها أنها ليست أكثر من إعادة إنتاج لكل نظريات الرحيل التي ظهرت قبل عشر سنوات ولا جديد سوى السعي المحموم من هذه الفضائيات لمزيد من الإثارة على حساب سمعة الراحلة وروحها التي لا يريدون لها أن ترقد بهدوء وسلام .
وثمة نوع آخر من أنواع المتاجرة بالأرواح والدماء، وهو نوع أكثر اتساعاً ويكاد يشمل بلاداً وشعوباً بكاملها، حيث أخذت فضائيات عربية منذ مطالع العام تتقمّص دور تاجر الدماء الذي لا يهنأ له بال إلا بأحاديث القتل والفتك، متلذذاً بمناظر الدماء وهي تغطي الشوارع العربية، ومحرّضاً على المزيد منها كي لا يُقطَع رزقُه، مستغلاً بساطة ومحدودية تفكير البعض كي ينجز مشروعه الذي لن يكتمل إلا بخراب كل شيء على رؤوس الجميع .
والشيء اللافت للنظر هو أن العديد من الحالمين بلعقة إصبع من قالب الكاتو استغلوا لهفة هذه الفضائيات (ومن يديرها ويموّلها) وتعطّشها للدم العربي فانبروا للتواصل معها، عازفين على وترها وهم الذين يوزعون شهادات عليا في المتاجرة بدماء البسطاء، وهمّهم الأول أن يعتلوا منصّة التتويج حتى ولو كانت قوائمها مصنوعة من جماجم .
هذه الفضائيات -بضيوفها ومحلليها وشهودها ونشطائها الحقوقيين- تبدو اليوم مسعورة وهي تلهث باحثة عن نقطة دم عربي في هذا الشارع أو ذاك، فإن لم تنجح في مسعاها هذا لجأت إلى اجترار ما ابتلعته من دماء لم تدرك أنها أريقت فداء لهذا أو ذاك من نزلاء الفنادق الأوروبية، طلاب السلطة والنفوذ الذين يتحمّلون وزر الدماء المراقة إلى أبد الآبدين .