2012/07/04
سامر محمد اسماعيل - السفير
يفاجأ المُشاهد بحجم المغالطات التاريخية التي تضمنها مسلسل «القعقاع بن عمرو التميمي»، حيث خلط محمود الجعفوري سيناريست المسلسل بين شخصيتين: «القعقاع بن معبد بن زرارة» الصحابي الذي عاصر حياة الرسول، ومقاتل غشمشم «القعقاع بن عمرو التميمي» أحد جنود جيش الإسلام في الفترة التي تلت وفاة الرسول. وربما في ذلك محاولة «لتبييض» صفحة قبيلة بني تميم الذين تأخر إسلامهم في شبه الجزيرة العربية.
وهكذا ابتكرت الدراما شخصية تاريخية غير موجودة (انظر كتاب «تاريخ سيف» لصاحبه سيف ابن عمر)، وهو ما أكد عليه «الطبري» بأن «القعقاع» شخصية مشكوك في صحة أمرها تاريخياً، وبأنه محارب مأمور في غزوات الخلفاء الراشدين، ويؤيده في ذلك المؤرخ «ابن حجر العسقلاني» الذي يورد اسم «القعقاع» في آخر طبقة من طبقاته عن الصحابة. إلا أن المسلسل السوري الذي أنتجه تلفزيون قطر ونفذته «شركة سورية الدولية» تجاهل كل هذه الحقائق، مبتعداً عن علم التحقيق التاريخي الذي أثبت عبر أهم مؤرخي فترة صدر الإسلام على أن «القعقاع» شخصية تخيلية.
كما يذهب كاتب المسلسل إلى تقديم شخصية «القعقاع» على شخصيات تاريخية مثبتة، فيهمشها، مثل «خالد بن الوليد» و«سعد بن أبي وقاص» و«أبو عبيدة بن الجراح». فظهرت كشخصيات تابعة وحيادية، في مقابل بطولات جبارة قام بها القعقاع.
كما وقع المسلسل في أخطاء توثيقية فادحة لجهة تقديمه أهم المعارك الإسلامية الكبرى، وهي معركة القادسية، في مشهدين يصوب فيهما القعقاع رمحاً إلى عين أحد الفيلة مع قليل من الكومبارس الهنود، في حين يعرف الجميع أن «القادسية» التي استمرت خمسة أيام ما زالت تدرّس في أهم جامعات أوروبا كتقنية عسكرية فذة استخدم فيها المسلمون تكديس الخيول فوق بعضها لعبور جيشهم لنهر الفرات وانتصارهم الساحق على الفرس. التقنية التي استخدمها العثماني «محمد الفاتح» أثناء هجومه على عاصمة الإمبراطورية البيزنطية «القسطنطينية» العام 1453، واستخدمها الجيش المصري لعبور قناة السويس في حرب أكتوبر 1973.
في المقابل، سلّم «المثنى صبح» إخراج المعارك لفنان الغرافيك المقيم في فرنسا شادي أبو العيون السود، الذي طبق نماذج من فيلمي هوليوود «الإسكندر الكبير» و«طروادة» على معارك «اليرموك» و«القادسية». وابتعد عن تقنية «السيف العربي المائل» التي طبقها العرب في غزواتهم ضد تقنية السيف الروماني المستقيم، واستفاد منها المغول بعد ذلك في حروبهم الهمجية على مدن وحواضر المشرق العربي العباسي، فيما اختصر «صبح» معركة «ذات الصواري» أهم معركة بحرية إسلامية ببضعة مشاهد عابرة لعدة قوارب صغيرة يتشابك جنودها بالأيدي وبعض الرماح.
كما وقع «القعقاع» بأخطاء أكثر فداحةً من جهة تقديم المدن، فقدم للمشاهد مدينة «الكوفة» على أنها مدينة مبنية بالحجر، فيما كانت الكوفة في العصر الراشدي عبارة عن معسكرات، أعشاش من القصب بُنيت على عجل لإيواء عائلات جيوش المسلمين، تمت كسوتها بالطين بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب، وهذا مثبت في وثائق ومراجع كثيرة.
كما صور المسلسل مشاهد المدينة المنورة ومكة في ديكورات مسلسل تاريخي آخر، رغم إعلان مخرج العمل غير مرة أن الجهة المنتجة المُنفذة قامت ببناء أربع مدن ضخمة لإنجاز المسلسل، فيما تم التصوير في الواقع داخل ديكورات مسلسل «صدق وعده» التي صممها الفنان «ناصر جليلي» وأخرجه محمد عزيزية العام 2009 من دون الإشارة لذلك حتى في «جنريك» العمل.
إلى ذلك لم يركن نص «الجعفوري» إلى صياغة درامية واضحة، بل آثر إيراد حوادث تاريخية مجتزأة، فلم يرسم أي معالم لأي شخصية، فلا وجود لسيناريو، بل تجميع لحوادث متراكمة يقصها ممثلون بعضهم على بعض، على هيئة حوارات مطولة تقال أثناء مشاوير طويلة، بلا جدوى درامية ملخصها عدل الخليفة وتمسكه بالدين الحنيف، فيما تُقال مجمل الحوادث الأساسية على لسان «القعقاع» الذي يعود ليظهر في الثلث الأخير من العمل كراوٍ حزين لشؤون المسلمين والفتنة التي ألمّت بهم في عهد الخليفة بن عفان، قاصاً على زوجته الصامتة حكاياته وخوفه من فرقة المسلمين، وما يدبر في الخفاء لهم.
وغيّب العمل شخصيات نسائية مؤثرة آنذاك، فلم يأت مثلاً على ذكر الخنساء، وأولادها الذين استشهدوا في معركة القادسية، و«نائلة بنت الفرافصة» زوجة عثمان بن عفان التي كانت فيصلاً في قصتها المشهورة عن قميص عثمان وأصابعها المقطوعة أثناء رد السيوف عنه، وهند بنت عتبة وسحاج «مدعية النبوة» من قبيلة بني تميم، و«عائشة بنت أبي بكر»، فمر عليهن العمل مرور الكرام، مضاعفاً بذلك من فداحة الأخطاء، علماً أن المثنى صبح قال أثناء استلامه عن «القعقاع» جائزة أفضل عمل تاريخي في مسابقة «الجوردن أوردز» إن «القعقاع حدد سقفاً لمن يريد أن يقوم بإخراج أعمال تاريخية مستقبلاً» فأيُّ سقفٍ حدده هذا المسلسل في وجود كل هذه المغالطات القاتلة والمستخفة بذوق وعقل المشاهد العربي؟