2013/05/29
مارلين سلوم – دار الخليج
كيف تواجه حرباً، حزناً، ضجراً، عنفاً، قسوة؟ بأي شيء تتسلح كي تواصل رحلتك في الحياة، فتستفيق على أمل جديد؟
الإيمان هو زادك الأول والأهم، وإلى جانبه تحتاج إلى إرادة قوية لترى الأمل يتسلل من كل الطاقات الضيقة، وحتى من تلك الأبواب الموصدة في وجه المستقبل . تلك النفحات نراها اليوم في كل بلد عربي، ترافق الأجواء الملبّدة بغيوم ما اعتقدناها “ثورات”، تنبت من زوايا ثقافية ومن أروقة تتنفس فناً وتتحدى القهر بالغناء والتمثيل والموسيقا . كأنها مباراة يتصارع فيها العنف مع الفن، فأي صوت يعلو، وأي إرادة تتغلب؟
إنها إرادة الحياة والبقاء وإرادة الشعوب التي تحوِّل المآسي إلى نكتة وأغنية ولحن . وسط كل الأجواء القاتمة، تحتفل الدول العربية بمناسبات فنية وثقافية، ولا تنسى مبدعيها الأوائل . هكذا فعلت “القاهرة” عاصمة الفن العربي، حين احتفلت في القاعة الملكية في قصر المانسترلي الأسبوع الماضي بذكرى ميلاد موسيقار الأجيال . قبل 103 أعوام ولد محمد عبدالوهاب، وهو الذي بقي يؤلِّف ويعطي حتى الرمق الأخير، وكان مع كل درجة من سلالم العمر يزداد إبداعاً، حتى ختم رحلته برائعته “من غير ليه”، التي تعد مجموعة أغنيات في أغنية . كأنه أراد أن يقدم كل ما في مخزونه وعقله من موسيقا ونغمات، فجاءت الأغنية بمقطوعات وفقرات، تتوالى ولا تنتهي .
دار الأوبرا فتحت أبوابها أيضاً لإحياء الذكرى 36 لرحيل العندليب عبدالحليم حافظ، فأعادت فرقة “أوتار” تقديم مجموعة من أغانيه الخالدة . الأحياء يستعيدون إبداع الراحلين، وفي الوقت نفس يصرّون على تقديم جديدهم وفنهم الخاص، فكان أن انطلق مهرجان “الجاز” بدورته الخامسة، غير عابئ بما يحصل وبموجات التطرف التي تغزو البلد، محتضناً محبي الجاز من مختلف أنحاء العالم .
صحيح أن الحزن يطغى على الحياة في مصر، لكن هناك إضاءات تأتي من أطراف وزوايا و”نوايا” جميلة، تمنحك جرعة من التفاؤل والإصرار على الاستمرار ومواجهة الألم بالفن . وهناك من الفنانين من يشارك في تصوير برامج مسلية، فيتسابقون ويضحكون، مثلما يحصل في برنامج “مين بيقول الحق” الذي تقدمه دوللي شاهين، وهنا لسنا نقيّم البرامج ومضمونها، بل نتطرق إلى فكرة مقاومة المحنة بالضحكة والفن، والإصرار على الحياة كنوع من السلاح في وجه التدمير .
البرامج التلفزيونية ليست كلها سياسية، ولا كلها إخبارية . فالناس يبحثون عن الخبر وعما يقوله المحللون، لكن هناك من يريد أن يهرب إلى الفن كي يستمد منه بعض التفاؤل، كأنه يُعطر الأجواء كي يستريح قليلاً من صراعات السياسيين، ومن برامج “الأحذية” التي يتراشق فيها الضيوف بأحذيتهم بعد استنفاد كل أسلحتهم الهجومية والألفاظ والشتائم المتبادلة . ووسط الهموم تفاجأ بالكم الكبير من الشباب الذين تقدموا للاختبارات في برامج الغناء “أراب آيدول” و”اكس فاكتور”، ومازال هناك عدد لا بأس به من المشاهدين يتسمرون خلف الشاشات مساء الجمعة لمشاهدة حلقات “البرايم” ويشاركون في التصويت .
في سوريا ظلام أكبر، وسواد يلف كل مدنها وشوارعها، والمستقبل مقلق ومجهول، ورغم ذلك، يحفظ الممثلون أدوارهم ويوجه المخرجون فرق العمل لتصوير المسلسلات، والاستعداد لمواكبة الموسم الرمضاني الذي أصبح قاب قوسين .
البعض لجأ إلى دول مجاورة من أجل إتمام العمل، وهذا أيضاً نوع من أنواع التحدي والإصرار على الاستمرار لا الاستسلام . ومهما كان عدد المسلسلات السورية التي ستعرض هذا العام قليلاً، إلا أنه يُعد كثيراً لأنه وليد ظروف صعبة، لاسيما أن معظم الأعمال، كما تقول أجواء التصوير، يعتمد على الكوميديا أولاً والدراما الاجتماعية ثانياً، وليس من السهل أن تبتسم وتضحك على الشاشة، وأنت تعرف أن شعبك يموت في كل ثانية .
قد يعتبر البعض أن ذهاب الدراما السورية نحو الكوميديا هو نوع من الهروب من مواجهة الواقع والسقوط في مطبات الالتزام مع طرف معين ضد الآخر، إلا أن الأمر فيه كثير من الذكاء والمنطق، لأن الدراما ليست مطالبة بالتصفيق لأشخاص أو تبني وجهات نظر أطراف، بقدر ما مطلوب منها أن تنقل جزءاً من الواقع، وأن تكون عين المشاهد ولسانه وقلبه . وكل هذه الأمور مستحيلة الآن في ظل هذا التخبط، لذا من الضروري التمهل كي تتضح الحقائق وتنقشع الرؤية قبل تصوير الأعمال . وما هو صادق وموضوعي من الأعمال الدرامية والسينمائية، لا يأتي في لحظة ولا هو وليد انفعال مؤقت، وإنما يستلزم الكثير من التعمق والرؤية الشاملة للأحداث من مختلف أبعادها وجوانبها، لأن الفن يؤرخ المراحل المهمة في حياة الشعوب، وهو أرشيف يمكن العودة إليه في أي وقت .
لبنان يواصل الحياة أيضاً رغم كل المآسي والمآزق التي يمر بها منذ سنين طويلة، بل إن الحركة الفنية والثقافية لم تتوقف فيه يوماً . هو الذي عرف كيف يستخدم البرامج والمسرح والغناء كي يضحك على السياسة وعلى الأوضاع التي ينجرف إليها رغماً عنه، ولطالما تجولت أعماله المسرحية، ولا سيما الرحبانية، حول العالم تحكي عن الصراعات الطائفية وعن الوطن الحلم . وأحدث ما يعرض الآن على مسرح كازينو لبنان، وبينما البلد على فوهة بركان، مسرحية “شمس وقمر” لعاصي الحلاني التي تجسد أحوال العالم العربي قبل الثورات .
الفن متنفس الشعوب وسلاحها في وجه العنف والحروب والظلم والمآسي والطغاة، وهو المنتصر دائماً، لأنه لا يحمل هوية واحدة، ولا يعترف بعنصرية أو تعصب أو عنف، بل يتحالف مع إرادة الحياة والبقاء .