2012/07/04
بشار إبراهيم – تشرين دراما
ناجي جبر، الشهير باسم «أبو عنتر»، كان النموذج الأبرز للفنان السوري الذي لا تضيق به شخصيته الفنية، ولا يضيق بها. لقد كان يدخل في ثنايا «الكاركتر» الفني الخاص به، مرات عديدة، وينسلّ منه، مرات أخرى، بسهولة تامة، واقتدار ملفت، يمكن له أن يفضح محاولات فنانين آخرين حاولوا، بكل الفشل، الخروج من إطار نمطياتهم، فما استطاعوا!.. في الوقت الذي أمكن للفنان ناجي جبر أن يظهر في شخصية «أبو عنتر»، المستقاة من الشخصية التلفزيونية الأصلية، وأن يقوم بالتنويع عليها، تعديلاً في الشكل، أو الجوهر، أو الطبيعة، وأن يخرج منها، ليذهب إلى شخصيات مفارقة كلياً لما يمكن أن ينتظره جمهوره منه.
منذ أولى إطلالاته السينمائية، كان الفنان ناجي جبر يعد بكل ما هو مختلفاً ومميزاً، سواء اتكاءً على ملامحه الشخصية، أو بنيته الجسدية، أو على قدراته التمثيلية، وحرصه على التنوع، الذي كان من شأنه أن يزجّ به في تجارب سينمائية عابرة، لا كثير من الشأن لها، لكنها في كل حال كانت محطات حضور، ونقاط عبور، من محطة إلى أخرى، ومن تجربة إلى غيرها.
الحرص على الحضور، والإطلالة، حتى لو كانت عبر مشهد واحد، سيبدو حاضراً في مسيرة الفنان ناجي جبر، حتى من دون أن نتمكّن من تفسير هذا الحضور، أو تلك الإطلالة، إلا بنفسها. من تراه لا ينتبه إلى ذاك المشهد في «راقصة على الجراح»، أو تلك الإطلالة في «عشاق على الطريق»، أو في فيلم «صعود المطر».
ناجي جبر، الفنان الذي أثبت منذ خطواته الأولى، في عالم السينما، أنه قادر على حمل فيلم بكامله، والمنافسة به عبر شباك التذاكر. كما أثبت أنه طراز الفنان الذي يستحق أن تُصنع أفلام خاصة به، ومكتوبة له. هو الفنان نفسه، الذي كان يقبل أن يظهر تارة في صورة البطل المطلق، وتارة أخرى في صورة البطل الثاني، أو الشخصية العابرة.. كأنما هي صورة من صور عشق السينما، والاستعداد الكامل للعمل فيها، بغض النظر عن كونه بطلاً أولاً، أم تالياً. ولعل هذا ما جعل منه الفنان السوري الذي يظهر اسم على تيترات خمسة وعشرين فيلماً، وفق ما أمكن لنا الإحصاء، والمشاهدة.
خمسة وعشرون فيلماً سينمائياً، هي حصيلة ثرية، سوف تصعب على الكثير من الفنانين السوريين. بل إننا سننتبه إلى أن الفنان ناجي جبر أمكن له، في أعوامه الذهبية، عند منتصف سبعينيات القرن العشرين، أن يظهر في قرابة نصف الأفلام السورية المنتجة، في العام الذهبي، إنتاجياً، للسينما السورية؛ نقصد عام 1974، الذي شهد وفق تقديراتنا إنتاج 14 فيلماً، كان للفنان ناجي جبر أن ظهر في 5 أفلام منها، على الأقل.
وبمقدار ما شكل الفنان ناجي جبر علامة بارزة على صعيد الحضور في أفلام السينما السورية، فإنه أيضاً شكل علامة فارقة على صعيد التنوع، والقدرة على الأداء المتميز. أليس الفنان ناجي جبر هو ذاك الفنان السوري الذي تمكَّن، بجرأة، من خلع أردية «أبو عنتر» الشهيرة، والمألوفة، ليظهر في إهاب الشاب «حمدي»، ولينقلب من البطل الشعبي القوي العتيد، إلى الفتى المسكين؟!.. وأليس هو من تحوّل بسرعة إلى «دونجوان» السينما السورية، والفتى الأكثر تهتكاً فيها؟.. أليس هو من تقلّب ما بين دور القوي الأمي الجاهل؛ الشهير بعنوان «أبو عنتر»، إلى «شريف» الشاب الثري المستهتر، إلى «حميدو» رجل العصابات، إلى «سليمان» الأستاذ الجامعي المُسيَّس، إلى «سالم» ضابط الأمن؟!..
كان الوقت عام 1976، وكان كل شيء ما زال مبكراً، ولم تكن قد مرَّت على انطلاقة تجربته السينمائية، سوى سنوات قليلة، لا تتجاوز عدد أصابع الكف الواحدة، عندما أمكن لهذا الفنان القدير التفكير على هذا النحو. لا شك أنه كان يعرف أن شخصية «أبو عنتر»، هي من نوع «الماركة المسجلة»، والضمانة التامة لاستجلاب الجمهور إلى الصالات، بل والحصول على التصفيق آن يظهر في مشهده الأول. فعند «أبو عنتر» تتجمع صفات البطل الشعبي، القوي، والقادم من عمق الحارة الشخصية، كما صورة القبضاي، والزكرت، وربما الأزعر.. ولكن ليس فيه من الخسة أو الدناءة، من شيء. ولهذا، ومع هذا التجمع المتناقض، كان يمكن له أن يحوز على إعجاب الجمهور، وأن يكون كل شيء مضموناً، وخالياً من المجازفة، فماذا لو تقدم إليهم بصور أخرى مفارقة، بل ونقيضة لما عرفه الجمهور، وأحب؟!..
ننتبه الآن، ونحن على بوابة مراجعة تجربة الفنان ناجي جبر السينمائية، أن أولى إطلالاته كانت، ربما، في فيلم «مقلب حب»، إخراج يوسف معلوف، عام 1972، بالاشتراك مع كل من «ناهد يسري، محمود جبر، رفيق السبيعي، هالة فاخر، طلحت حمدي..». ولعل ظهوره هذا، كان برعاية من شقيقه الأكبر؛ الفنان الكبير محمود جبر، الذي كان منذ ذاك الوقت المبكر قد تمكَّن من خلق ظاهرة فنية سوف تُعرف طويلاً باسمه (محمود جبر)، في المسرح، كما في السينما، وربما في الإذاعة، أيضاً.
في فيلم «مقلب حب»، سوف يظهر الفنان ناجي جبر في إهاب شخصية الشاب «فيصل»؛ طالب جامعي، بلحية شقراء إلى درجة الحمرة، ضمن فريق الشر الذي يقوده الفنان طلحت حمدي، هذا الفريق، من طلبة الجامعة، الذين لا همّ لهم سوى الإيقاع بزميلهم محمود «محمود جبر»، الشاب البسيط، والبريء، إلى حد السذاجة.
يحضر الفنان ناجي جبر، بعيداً عن شخصية «أبو عنتر»، على الرغم من حضور «أبو صياح»، والحارة الشامية العتيقة، وكثير من الشخصيات، التي كانت البيئة الملائمة لوجوده. ولعل ثمة ما يوحي لنا بأن هذه الفيلم سابق على ولادة شخصية «أبو عنتر»، ليس فقط بسبب عدم ظهور أي نبرات من شخصية «أبو عنتر»، في ملامح أو أداء الشاب «فيصل»، بل ربما على الأقل بسبب ظهور الفنان ياسين بقوش، في إطار كاركتر سابق على شخصية «ياسينو»، التي ستلازمه فيما بعد. ما بين عام 1970، التاريخ المعتمد لإنتاج مسلسل «صح النوم»، الذي شهد ولادة شخصية «أبو عنتر»، وعام 1972، التاريخ المعتمد لإنتاج فيلم «مقلب حب»، تبدو التواريخ ملتبسة.
وفي كل حال، فإن العام 1973، سوف يكون تاريخ إنتاج ثاني فيلم للفنان ناجي جبر، وهو فيلم «شقة ومليون مفتاح»، إخراج رضا ميسر، حيث يتشارك في بطولته مع كل من: «طروب، ياسين بقوش، فهد كعيكاتي، أبو عبد البيروتي..»، وفي هذا الفيلم يظهر في إطار تنويع على شخصية «أبو عنتر»، الذي أضحى هنا صاحب ورشة حدّادة «حدادة إفرنجي»، وبات مالكاً لعدد من العمارات السكنية، من دون أن يتخلى عن المواصفات المعهودة عن شخصيته.
في فيلم يمتلك حداً عالياً من الرداءة، إذ يسعى إلى الكوميديا من دون أن يطولها، وإلى الإثارة الحسية، من دون أن يمتلك حداً أدنى من الذائقة، أو اللياقة، يأتي فيلم «شقة ومليون مفتاح»، على الرغم مما تضمنه من مقولات أخلاقية، وقيم نقدية لانقلاب المقاييس الاجتماعية، ولكنها جميعاً تاهت في بحر انهماك المخرج رضا ميسر، فيما يرضي نهم الكاميرا، ويحاول دغدغة غرائز الجمهور، وإثارتها. ولا نعتقد أن الفنان ناجي جبر كان راضياً عن النتيجة التي انتهى الفيلم إليها، خاصة وأن عيوب الفيلم كانت في مكان آخر؛ أي في التنفيذ، وبعيداً عن حضوره، الذي كان يتسق مع بعض ملامح شخصية «أبو عنتر».
لقطة واحدة، سيحضر خلالها الفنان ناجي جبر، في فيلم «راقصة على الجراح»، إخراج محمد شاهين، عام 1973، بالاشتراك مع كل من: «إغراء، يوسف حنا، محمود جبر، ليز سركيسيان، محمد صالحية..». بينما سيعود إلى الظهور التام في إهاب «أبو عنتر»، في فيلم «غوار جيمس بوند»، إخراج نبيل المالح، عام 1974، بالاشتراك مع كل من: «دريد لحام، نهاد قلعي، ياسين بقوش، نجاح حفيظ، صباح جزائري، أديب قدورة..». هنا سوف يظهر أبو عنتر، على الصورة ذاتها التي عرفناها عنه في التلفزيون. فيلم «غوار جيمس بوند» يأخذ مجتمع «صح النوم»، مع إجراء بعض الإعادة في الترتيب، والتغيير، كما مع الاحتفاظ بالأشكال، وبعض العلاقات ذاتها..
ربما كان في نية المخرج نبيل المالح تحقيق فيلم كوميدي، مستفيداً من الكركترات الشامية العتيقة، من غوار وحسني وفطوم وياسين وأبو عنتر، ومن وجوه جديدة صباح جزائري، وأديب قدورة، ولكن المؤكد أن فيلمه لم يرق حتى إلى مستويات غوار الأخرى.
أما في فيلم «فاتنة الصحراء»، إخراج محمد سلمان، عام 1974، وبالاشتراك مع كل من: «سميرة توفيق، محمود سعيد، إغراء، خالد تاجا..». فإن «أبو عنتر» سوف يأتي على صورة لحَّام «جزار، أو قصاب»، يقدم من الشام، إلى البادية، برفقة حبييته فطوم «نجاح حفيظ»، التي تقوم هذه المرة بدور زوجته «أم عنتر».. ولا يبدو من دور لهما سوى إضفاء شيء من الفكاهة على أحداث الفيلم التي كانت مهتمة بالمطربة البدوية سميرة توفيق؛ أغانيها، وقصص عشقها، ومغامرات المضارب.
المحطة الأهم، سوف تأتي مع فيلم «عودة حميدو»، إخراج فيصل الياسري، عام 1974، بالاشتراك مع كل من: «منى إبراهيم، فهد كعيكاتي، عدنان بركات، خالد تاجا، سليم كلاس، محمد العقاد..». هذا الفيلم كتب القصة له «الأخوان رحباني». ولكن من قال إن تجربة الرحابنة السينمائية جيدة؟.. أو من قال إنها يمكن أن تضاهي تجربتهما الموسيقية، أو المسرحية؟..
سيأتي الفنان ناجي جبر، في هذا الفيلم، خارج شخصية «أبو عنتر»، من ناحية المظهر، إذ نراه بلباس عصري «تيشيرت، وبنطال جينز، نظارات سوداء، برنيطة»، ولكنه يقبع في جوهر شخصية ذاتها، من خلال الاسم، وطريقة الكلام، والشاربين المنحدرين بطريقة قوية ميزت ملامحه. إنه «أبو عنتر، اسمه حمدان، ويدلعونه حميدو». وسيخوض صراعاً مع عصابة عتيدة، طرفها شرير السينما السورية «خالد تاجا». هنا ثمة جولات من الصراع والاشتباك بالقبضات، ومطاردات بالسيارات، ويفشل «حميدو»، الذي رجع إلى صورة «أبو عنتر» بالفرار، في فيلم مغامرات مصنوع خصيصاً لشخصية «أبو عنتر».
تنويع آخر على شخصية «أبو عنتر»، نراه في فيلم «غراميات خاصة»، إخراج فيصل الياسري، عام 1974، بالاشتراك مع كل من: «ناهد شريف، عمر خورشيد، عبد اللطيف فتحي، خالد تاجا..». فعندما تجد الست نادية «ناهد شريف» نفسها في موقع إدارة المصنع الذي مات عنه والدها، ويطمع عبد العظيم بيك «عبد اللطيف فتحي» بإدارة المعمل، وهو يبدو في صورة محدثة عن «بدري بيك أبو كلبشة»، شكلاً، حيث يظهر بالطقم وربطة العنق، ولكنه لا يتخلى كثيراً عن طريقة أدائه، يحضر السكرتير «أبو عنتر»، في إطار الشخصية ذاتها، مع تعديلات شكلية، كأن يرتدي الجاكيت على شروال، دون أن يتخلى عن كونه «أبو عنتر» ذاته، على مستوى التعبير والأداء..
أما في فيلم «هاوي مشاكل»، إخراج فيصل الياسري، عام 1974، بالاشتراك مع كل من: «محمود جبر، نبيلة النابلسي، سليم كلاس، رفيق سبيعي..»، فإنه يعود مرة أخرى للحضور مع شقيقه الأكبر، الفنان محمود جبر، الذي سنراه، هذه المرة، في إهاب شاب من أدنى سماته أنه يتدخل فيما لا يعنيه، وهو ما يجلب له الكثير من المشاكل. «أبو صياح»، السجين الشهير لدى الشرطة، سوف يوجهه للقاء «أبو عنتر»، في أحد المقاهي الشعبية التي اعتاد التردد إليها. وعندما يطل «أبو عنتر» على الشاشة سوف تشتعل الصالة بالتصفيق!..
شخصية «أبو عنتر» الأصلية، سوف نعود لنراها في فيلم «صحّ النوم»، إخراج خلدون المالح، عام 1975، بالاشتراك مع كل من: «دريد لحام، نهاد قلعي، نجاح حفيظ، ياسين بقوش..». الفيلم هو مجموعة من المقاطع المنتخبة من وقائع عالم المسلسل. يبدأ غوار الطوشة حربه ضد حسني البورظان، وهذه الحرب سوف تظهر لنا سلسلة لا تنتهي من المقالب، والمكائد، مستعيناً بصديقه الأثير «أبو عنتر»، ويتحوّلا معاً إلى عصابة طريفة، مهمتها تدبير المقالب والمكائد لحسني، وأهل الحارة جميعهم.
في العام 1976، سوف يظهر في فيلم «صيد الرجال»، إخراج بشير صافية، وبالاشتراك مع كل من: «حياة قنديل، مها الصالح، محمود جبر، عصمت رشيد..». بعيداً عن شخصية «أبو عنتر»، وفي إهاب شخصية الشاب الثري المستهتر؛ «شريف»، الذي سيكون على النقيض من اسمه، إذ يبدو في صورة المتهتك، زير النساء، العابث اللاهي، بلا قيم ولا أخلاق، والذي سيترصد الشابة هدى «حياة قنديل»، ويحاول إغراقها في الخطيئة.. كما أنه، ومن جهة أخرى، سينهزم في اشتباك بالقبضات أمام محمود جبر، في كسر لصورة «أبو عنتر» المترسخة في ذهن الجمهور.
ظهور آخر، يجافي شخصية «أبو عنتر»، وإن كان لا ينكرها تماماً، سوف نراه في فيلم «جزيرة النساء»، إخراج فيصل الياسري، عام 1976، بالاشتراك مع كل من: «منى إبراهيم، فهد كعيكاتي، نجاح حفيظ، فايزة شاويش، أسعد فضة، هاني السعدي..». هنا ثمة رجل ثري «فهد كعيكاتي»، وزوجته «نجاح حفيظ»، وابنتهما «فايزة شاويش»، وسائق العائلة «ناجي جبر»، الذي غالباً ما يتعرض للمضايقات من صاحب العمل..
يُقرِّر الرجل إقامة سهرة عارمة على ظهر مركب في عرض البحر، فيستدعي لذلك راقصة «منى إبراهيم»، وعدد من الأصدقاء منهم «أسعد فضة»، و«أبو عبد البيروتي».. تنعقد الحفلة الصاخبة على ظهر المركب، وتأخذ النشوة الرجل الذي يقرر أن يتقدَّم المركب في عرض البحر، ولكن عاصفة تطيح بهم في خضم الأمواج العاتية، في ليل بهيم.. وسوف تعيدهم إلى ما يشبه بدء الحياة، قبل أي تنضيد اجتماعي، أو طبقي، وعندما كان لكل مكانته بحسب قدراته العقلية، ومهاراته الجسدية، ولابد من أن تكون القيادة هنا لـ «ناجي»!..
وسيبدو فيلم «شيطان الجزيرة»، إخراج سهيل كنعان، وسمير الغصيني، عام 1976، بالاشتراك مع كل من: «محمود عبد العزيز، يسرا، أبو صياح، أرتميس تسارمي..»، محاولة لإنتاج كبير، من خلال زجّ ممثلين مصريين، ونجوم يونانيين، إلى جانب الممثلين السوريين، في فيلم طموح، من حيث المنطلق. نانا «أرتميس تسارمي» نجمة راقصة استعراضية يونانية، على علاقة بناجي «ناجي جبر».. يأتي كوستا «محمود عبد العزيز» ليخبره أن أحد الملفات سرق من شقته، وبالتالي فهو بات مستهدفاً بالقتل. وأبو صياح «رفيق سبيعي» فنان متخصّص بتصميم أقنعة وتماثيل الشمع، وهو صديق لكوستا فيكلفه هذا باستقبال ليلى «يسرا» في المطار، ونقلها إلى الفندق.. وما بين هذا وذاك تدور صراعات تليق بعصابات دولية، تفيض عن بلد واحد، لتصبح دولية الطابع، دون أن يحقق الفيلم الكثير مما كان يطمح إليه.
صحيح أن الفنان ناجي جبر، يبدو في هذا الفيلم بعيداً عن شخصية «أبو عنتر» التقليدية، ولكنه لا يبتعد، على مستوى الأداء، عنها كثيراً. إنه هنا، وهو يؤدي دور «ناجي»، لا يكفّ عن الوشاية بأنه «أبو عنتر»، ذاته، وإن بصورة عصرية، على مستوى الشكل، ولكنها هي الشخصية ذاتها، على الأقل في طريقة انخراطها في الاشتباك والقتال، وتسديد اللكمات، وردود أفعالها.
ولكن التحول الكبير، سوف يأتي مع فيلم «أموت مرتين وأحبك»، إخراج جورج لطفي الخوري، عام 1976، بالاشتراك مع كل من: «إغراء، عمر خورشيد..». هو هنا الشاب «حمدي»، شاب شامي في مقتبل العمر، مكافح وصبور، لا يجد سبيلاً بعد العمل كصبي في مقهى شعبي، إلا في أن يعمل صبياً في مكتب عقاري لصاحبه «عبد اللطيف فتحي»، الأمر الذي يجعل هذا الشاب الفقير مطلاً على عالم الأغنياء، والشقق الفاخرة، فيما هو يستأجر غرفة حقيرة، في بيت متهالك لسكن جماعي.
الفتاة ظفيرة «إغراء»، نموذج للفتاة الشامية الشابة، وهي بانتظار أن يحملها عريسها إلى غرفة الزوجية، ولم يكن الأمر بحاجة إلا لحدث عابر، يمكن له أن يطيح بكل شيء، في دراما كان يمكن لها أن تصنع فيلماً متميزاً، لولا نهم الكاميرا، وانشغالها بتفاصيل حسية، لم تضف شيئاً للفيلم، بل أطاحت به. ولكن دور «حمدي»، وأداء ناجي جبر له لا ينبغي أن ينسى.
ولن يبدو فيلم «قاهر الفضاء»، إخراج سهيل كنعان، عام 1976، بالاشتراك مع كل من: «محمود جبر، إغراء، أديب قدورة، سلوى سعيد..»، سوى فيلم عابر، فهو فيلم لم يتمكن من الوصول إلى حافة الفيلم الكوميدي، ولا الدخول في مجال فيلم الخيال العلمي، ولا هو احتفظ بالحد الأدنى للفيلم الناقد لعقلية التخلف الشرقي الجاهلة، أمام العلم الغربي، كما ادعى في واحدة من تفاصيله. في هذا الفيلم سوف يظهر «أبو عنتر» على هيئة «طنبرجي»، يقود طنبره إلى مطار دمشق الدولي، لاستقبال الأستاذ وليد «أديب قدورة»، وزوجته فرانسوا «إغراء».. وبالتعاون مع ماهر «محمود جبر»، المشعوذ الدجال، سوف يقومان بالكثير مما لا يمكن اعتباره تصرفات وسياقات لا سند درامياً لها، إلى درجة أن يقوم «أبو عنتر»، بالغناء، أو ممارسة دور الدليل السياحي!..
صورة مختلفة أيضاً نراها في فيلم «غزلان»، إخراج سمير الغصيني، عام 1976، بالاشتراك مع كل من: «سميرة توفيق، محمود سعيد، ياسين بقوش، هالة شوكت..». هذا الفيلم الذي يبدو بمنزلة عودة أكثر قوة إلى الثنائي الفني الذي شكّلته المطربة سميرة توفيق، والفنان محمود سعيد، مدعومين، هذه المرة، بحضور قوي للفنان ناجي جبر، في صورة «الشيخ ربيع»، الذي على الرغم من اشتغاله بتهريب الآثار، وتهتكه الأخلاقي، وانحرافه، إلا أنه لم يبتعد عن أن يكون المعادل الفني لصورة «أبو عنتر»، على مستوى الأداء، والتعبيرات.
أما في فيلم «الاستعراض الكبير»، إخراج رضا ميسر، عام 1976، بالاشتراك مع كل من: «طروب، ياسين بقوش، استيفاني، جوزيف نانو..»، فسيخرج من السجن، الذي يبدو أنه مكانه المعتاد!.. وسيخوض «أبو عنتر»، الذي نعرفه تماماً، مغامرة الاشتغال بصفة حارس شخصي عند الست منى «طروب»، من أجل كشف سرّ جريمة غامضة.. وعلى الرغم من خفة «أبو عنتر»، وعبثيته، وحتى فوضويته، سوف يتمكن من التقاط الخيوط التي تكشف عن جريمة القتل. وبشيء من المطاردات، والتشويق.. وبشكل ما من أشكال كوميديا الحركة.. سوف يتم إلقاء القبض على العصابة، ولكن لن ينتهي الفيلم، إلا بعودة أبو عنتر إلى السجن، مرة أخرى، وكأنه مكانه الطبيعي، الذي لا منجاة منه، ولا خيار سواه.
وفي مشهد عابر، ولا لزوم له، يظهر الفنان ناجي جبر في فيلم «عشاق على الطريق»، إخراج فيصل الياسري، عام 1977، بالاشتراك مع كل من: «رفيق سبيعي، حبيبة، عدنان بركات، أديب قدورة، سليم كلاس..». إنه الشاب المتأنق، العابر، الذي يلتقط زوجة بطل الفيلم، بشكل عابر، ويأخذها إلى مخدعه، لا قبل ولا بعد!..
المحطة الأبرز في مسيرة شخصية «أبو عنتر»، وليس في مسيرة الفنان ناجي جبر، كانت في فيلم «زواج على الطريقة المحلية»، إخراج مروان عكاوي، عام 1977، بالاشتراك مع كل من: «رفيق سبيعي، وليد توفيق، نجاح حفيظ، تيسير السعدي، فاديا خطاب..». ففي هذا الفيلم شاء المخرج مروان عكاوي إعادة الاعتبار لبعض الشخصيات الفنية الشامية الأصل، من طراز شخصية «أبو صياح»، الذي اهتم مروان عكاوي بوضعه في موقع «الزكرت» القبضاي، الممثل للقيم الشامية الأنيقة، بموازاة وضع شخصية «أبو عنتر» في موقع الأزعر، بل إن مروان عكاوي بدا أنه يهتم بأن يحط من قدر شخصية «أبو عنتر»، فجعله يحمل اسم «أبو عنتر قطاع الخشب»، ويعمل في مهنة «كندرجي»، وما تتطلب هذه المهنة من قسوة وجفوة، إلى جانب التخفيض الاجتماعي لها!..
ثمة شكل من أشكال تصفية الحساب مع هذه الشخصية، مارسه المخرج مروان عكاوي، الذي ظهر بوضوح أنه يرفض أن ينظر الجمهور إلى «أبو عنتر» باعتباره القبضاي، أو الزكرت، فيما هو لا يرى فيه سوى الأزعر.. وشتان ما بين الصورتين، صورة القبضاي أو الزكرت، وصورة الأزعر، سواء على مستوى الوضعية الاجتماعية، والقيم الأخلاقية، والأداء السلوكي. لقد شاء عكاوي أن يؤكد، في هذا الفيلم، على أن «أبو صياح»، هو القبضاي، والزكرت، وأن «أبو عنتر»، ما هو إلا الأزعر!..
وسيتابع المخرج مروان عكاوي تأكيداته هذه في فيلم «إمبراطورية غوار»، عام 1982، بالاشتراك مع كل من: «دريد لحام، هاني الروماني، محمد خير حلواني، محمد العقاد..»، حيث يتحول «أبو عنتر»، إلى «الحوت»، الذي يبدو في صورة أزعر يعمل لصالح القبضاي «أبو جميل»، وسرعان ما يلقي أهل الحارة القبض عليه، ويقومون بتكتيفه، وتسليمه للشرطة، يتكامل هذا مع تغييرات طالت شكل الشخصية، وهيأتها، ولباسها، الطاقية وقصة الشعر، بما لا يليق إلا بأزعر دنيء.
ومع فيلم «حارة العناتر»، إخراج أسامة ملكاني، عام 1984، بالاشتراك مع كل من: «ياسين بقوش، ناهد حلبي، المطرب فؤاد غازي، سلوى سعيد..». يبدو أن «أبو عنتر» بدأ يدرك تأثيرات الزمن عليه، وعلى المكان، إذ نراه يخرج من السجن، ويعود إلى الحارة دون فتوته وسطوته وقوته، بل إنه سيحاول تعلم مهنة يعتاش منها، فنراه في النهاية يعمل في ورشة يدوية لصناعة الزجاج، لقد تغيرت الحارة، كما تغيّرت شخصياتها، وفي مقدمتهم «أبو عنتر»، الذي بداً أقرب إلى أن يعلن توبته، ولقد فعل ذلك، كما في السينما، كذلك في الحياة.
لم يكن الفنان ناجي جبر قد تقدم بالعمر كثيراً (مواليد 1949)، عندما حول «أبو عنتر» إلى التقاعد الفني، ومنحه فرصة التوبة النصوح، كل شيء كان مبكراً بالنسبة لشخصية «أبو عنتر»، ولكنه كان متأخراً بالنسبة للسينما السورية، إذ كانت بوادر سباتها قد بدأت تطل، على درجة أن الفنان الذي كان يقدم خمسة أفلام في سنة واحدة، سوف يمضي خمس سنوات دون الاشتراك بأي فيلم.
وهكذا ما بين «باسمة بين الدموع»، إخراج وديع يوسف، عام 1985، بالاشتراك مع كل من: «نبيلة النابلسي، ممدوح الأطرش، حياة نديم..».، حيث قدم شخصية الأستاذ الجامعي «سليمان»، وحتى فيلم «سواقة التاكسي»، إخراج محمد شاهين، عام 1990، بالاشتراك مع كل من: «غادة الشمعة، سلوى نور الدين، هالة شوكت، نجاح حفيظ..»، حيث قدم شخصية ضابط الأمن «سالم»، وصولاً إلى فيلم «ثعالب المدينة»، إخراج محمد شاهين، عام 1990، بالاشتراك مع كل من: «صباح السالم، سحر فوزي، ليلى جبر، حسام تحسين بك، ليلى عوض، زهير عبد الكريم..».. وهي أفلام لا يمكن الاعتداد بها أبداً.. كل شيء كان ينذر بسبات طويل للسينما السورية، سينما القطاع الخاص.
وسيكون للفنان ناجي جبر، في هذه المسافة، حضور لا يُنسى في فيلم «صعود المطر»، إخراج عبد اللطيف عبد الحميد، 1995، بإنتاج المؤسسة العامة للسينما، وذلك بعد عقد من الزمن، كان قد مضى على ظهوره المميز، في فيلم «أحلام المدينة»، مع المخرج محمد ملص، عام 1984.
عاش الفنان ناجي جبر تجربته السينمائية، بكل ما فيها من صعود وهبوط، من نجاحات جماهيرية، وإخفاقات نقدية، ولكنه يبقى دائماً الفنان الذي تمكَّن من تطوير دور صغير، ليرتقي به إلى مصاف الشخصيات الشهيرة، وليتحول من شاب عابر في فضاء السينما، إلى شخصية أخذت لنفسها، جولات وصولات، وفق ما أحبت، وما أرادت، وبما أتيح لها، من وقت وأفلام، لتكون الأكثر حضوراً، والأكثر إثارة للجدل، في آن معاً.