2013/05/29
سامر محمد اسماعيل – السفير
لم يمرّ الاحتفاء باليوبيل الماسي لانطلاق خدمة «بي بي سي عربي» من دون احتفال على شاشتها. ويصادف الثالث من كانون الثاني الذكرى السبعين لانطلاق البثّ الإذاعي الأوّل بالعربيّة على أثير «هيئة الإذاعة البريطانيّة»، بعبارة «هنا لندن» التي تحوّلت إلى عبارة أيقونيّة، ومنحت اسمها للإذاعة في الوعي الشعبي العربي. منذ العام 1938، انطلقت إذاعة «بي بي سي» كأول خدمة ناطقة بلغة أجنبية عن الهيئة. ولعبت دوراً مهمّاً في العالم العربي، من خلال تقديم نسخة عن إعلام دولي متفوق في نقله للحدث والتعليق عليه، والتعريف بأبرز الوجوه السياسية والثقافية والفنية العربيّة. وفي إطار هذا الاحتفال، قامت القناة التلفزيونيّة الناطقة بالعربيّة، والخارجة من رحم التجربة الإذاعيّة التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية، بتخصيص يوم تلفزيوني للاحتفال بالمناسبة أمس الأول. ووضعت لوغو أحمر حمل رقم «75» في أعلى الشاشة، كنايةً عن عمر الخدمة العربيّة، أو «العمّة»، كما كان يطيب للعاملين فيها من رواد الإعلاميين العرب أن يلقبوها.
وتخلَّلت التغطية الخاصّة، فقرات سردت قصّة انطلاقة القسم العربي في «هيئة الإذاعة البريطانية»، بصوت الإذاعي الراحل أحمد كمال سرور. وتضمنت أيضاً، تحقيقات ميدانية، ولقاءات مع عينات عشوائية من شخصيات سياسية وثقافية وفنية، تحدّثت لشاشة «بي بي سي» عن ذكريات الإذاعة، وأثرها في نفوسهم. ففي حين اكتفى برنامج «آفاق» بفقرة لقاءات مع بعض المذيعين المخضرمين من أمثال أفتيم قريطم، مذيع الأخبار الرياضية والسياسية، خصَّص برنامج «حديث الساعة» حلقة كاملةً لتقييم عمل القناة والمحطات التي مرّ بها البث على امتداد 75 عاماً. واستضاف البرنامج الاختصاصي في شؤون الإعلام ياسر عبد العزيز، ورئيس تحرير جريدة «القدس العربي» عبد الباري عطوان، والأكاديمي السعودي حمزة بيت المال. كما نشرت القناة على موقعها الإلكتروني صوراً تذكارية نادرة لبعض الزملاء الراحلين والأحياء ولبعض النجوم العرب والقادة السياسيين، منها صورة للسيدة فيروز في مقابلة أجراها الإذاعي الراحل يعقوب مسلم في العام 1961، وصورة لملك العراق فيصل الثاني أثناء تسجيله لكلمة وجهها لشعبه في عيد ميلاده السادس عشر. كما بثت القناة تسجيلات نادرة من أرشيف مكتبتها، كان أبرزها الكلمة التي ألقتها السيدة أم كلثوم مخاطبة بها المصريين بعبارة «شعبي العزيز»، منوهة بدور الملك فاروق في رعاية الفن والفنانين.
يأتي هذا الاحتفال الماسي، في ظلّ صعوبات وتحديات كبيرة تواجهها مؤسسة «بي بي سي»، بعض الفضائح التي هزّتها العام الفائت، واستقالة مجموعة من إدارييها على خلفيّة قضيّة التحرّش بالقاصرين من قبل نجمها الراحل جيمي سافل.
منذ انطلاقتها، شهدت خدمة «بي بي سي عربي»، تحديّات مهنية حقيقية، كان أبرزها قدرتها على صياغة خطابها الإعلامي اتجاه الصراع العربي الإسرائيلي، ووعد بلفور. وتجلّى ذلك على وجه الخصوص، في محاولة تدخل الحكومة البريطانية في نشرتها الإخبارية الأولى في العام 1938، والتي ورد فيها خبر إعدام شاب فلسطيني أثناء فترة الانتداب البريطاني على فلسطين. وبرز ذلك لاحقاً، من خلال طريقة تغطيتها لحرب الخليج الأولى والثانية وسقوط بغداد في العام 2003، وأحداث 11 أيلول. كل ذلك يضع القائمين على القناة أمام تساؤلات كبيرة، خصوصاً لناحية تغطيتها للحدث العربي الراهن، بعد انطلاق الثورات. اللافت، أنّ «بي بي سي» حافظت في تغطيتها للربيع العربي على تقاليد وقيم صناعة المحتوى الإعلامي لأخبارها، مرسخة عوامل التوازن والموضوعية إلى حدٍّ كبير في فتراتها الإخبارية، من دون أن تتحول إلى قنوات للإعلام الحربي، وتنزلق لتصير أداة من أدوات الدعاية العسكرية، واستخدام صور ضحايا المجازر السورية من أطفال ونساء لصياغة الرأي العام العربي والدولي. ومنذ انطلاقتها الأولى، وضعت «بي بي سي عربي» خطة صارمة في نقل الحدث والتعليق على عناصره، متبعة سياسة تقييم دائمة ودقيقة لسياستها التحريرية، وبحضور شبه كلي تقريباً للآراء والآراء الأخرى. أمست «هنا لندن»، جزءاً من التراث العربي المعاصر، تماماً كما هي جزء من التراث البريطاني المعاصر، إضافة إلى كونها مرجعاً أكاديمياً للمشتغلين في الإعلام المرئي والمسموع، ومن كنفها خرجت فضائيات عربية دولية قلدتها إلى حين، قبل أن تستسلم بالمطلق لأجندات ورغبات المال العربي.