2013/05/29
علاء الدين العالم – تشرين
أبرز ما يميز الطفل في السينما السورية كـ«ممثل ودور» هو خروجه عن الصورة النمطية للطفل الريفي أو المدني على حد سواء، ولعل الكثير من الأعمال السينمائية السورية عملت على كسر هذه الصورة النمطية للطفل العادي الذي يأكل ويشرب ويرعاه أهله.... الخ،
واستبدالها بصورة أخرى فسحت أمام الأطفال «شخصية وأداء» لعب أدوار رئيسة في ثلة من الأفلام السينمائية السورية، بالإضافة إلى تحميل صناع العمل هذه الأدوار الطفلية الكثير من المقولات السياسية والفكرية والاجتماعية، حتى غدا بعض أطفال السينما السورية دوال يدللون على دلالات شتى.
اليازرلي.... طفل البحر بين الأنثى والفقر
كان لفيلم «اليازرلي» للمخرج قيس الزبيدي الأسبقية في توظيف الطفل في العمل السينمائي السوري كأيقونة، حيث ظهر الطفل في هذا العمل أيقونة تعكس معاناة الطفل مع الفقر الذي يدفعه للعمل في أحد المناجم الشاطئية، مصوراً كل المتاعب والإهانات التي تمر بهذا الطفل الغض مع الالتفات إلى عدم تنميط شخصية وإظهارها كطفل فقير يكدح للحصول على لقمة العيش فحسب، إنما ظهر «طفل اليازرلي» شخصية مستقلة، لا ترتبط بعائلة، رماها القدر الأهوج للعمل في هذا المنجم، وتحمّل متاعب هذا العمل الذي تتخوف منه رجال ضخام، وذلك ما جعل شخصية «طفل اليازرلي» تتحول من شخصية طفولية نمطية إلى أيقونة تختزل المعاناة النفسية للطفل الفقير في المجتمعات العربية وآثار هذه المعاناة على التكوين الفكري للطفل، وعكس هذه المعاناة الجوانية في العمل وتبرزها من خلال معاناة جسدية يمر بها الطفل الفقير على الدوام ولا ينفك عن حلمه بالتوق من هذه المعاناة السرمدية. كذلك يدلل طفل اليازرلي على بداية تكوين الكبت الجنسي عند الطفل في المجتمعات الفقيرة، وذلك من خلال مراقبة الطفل للعلاقة الجنسية التي تجمع معلمه في المنجم القدير الراحل «عدنان بركات» مع إحدى الفتيات. إن رؤية هذه الفتاة عارية تفتعل في داخل الطفل كل تلك المشاعر المحرمة مجتمعيا، وتدب في ذهنه ملايين التساؤلات الجنسية لا إجابة منطقية لها، والتي تشغل بال الطفل إلى أن يجد له، هو لا غيره، مبررات منطقية تقنع عقله وترضي فضوله للمعرفة الجنسية. إن «طفل اليازرلي» هو خير مثال على ظهور الطفل في السينما السورية كأيقونة تحمل بداخلها تجربة طفولية عامة وليس مجرد شخصية نمطية ثانوية تردف بشخصيات العمل الرئيسة.
قمران وزيتونـــــة....الأطفــــال شـــــواهد الهزيمة وأمل الغد
يبرز الطفل في فيلم «قمران وزيتونة» للمخرج عبد اللطيف الحميد كمكون أساسي من المفترض الحكائي للفيلم الذي يصور إحدى القرى السورية في ستينيات القرن الماضي مصوراً جيل الهزيمة الممثل من قبل «أبو عادل، حسام عيد» الرجل المعوق الذي أقعدته حرب فلسطين، و«أم عادل، نورمان أسعد» المرأة القروية التي تعاني من حاجة ماسة للذكر الزوج، يضاف إليهم أستاذ المدرسة أسعد فضة ذلك الرجل الذي استمد قسوته اللامتناهية من هزيمة العرب في حرب فلسطين، فغدت القسوة لديه انعكاساً لحالة الفشل في تحرير الأرض العربية، أما الطفل، فيظهر في العمل ممثلا بثلاث شخصيات «القمران: عادل وسعيد» أصدقاء يلتهون مع بعضهما بعضاً ويعانون مصاعب طريق المدرسة، و«زيتونة: أخت عادل»، الفتاة التي تلون حياة الطفلين بالمرح والحب. انطلاقا من عنوان الفيلم «قمران وزيتونة» يظهر مدى توظيف عبد الحميد الطفل في عمله هذا كرمز يدلل به على أمور شتى، فالقمران اللذان سينوران عتمة الليل العربي وسينفضان غبار الخسارة عن جيل هزيمة فلسطين هما الطفلان «عادل وسعيد»، والزيتونة المتشبثة بالأرض والمرتبطة بوطنها أيما ارتباط هي الطفلة «أخت عادل»، هؤلاء الأطفال الثلاثة يمثلون جيل الغد، الجيل الذي يحمل معه الأمل بالنصر، ويرنو للاغتسال من نير الهزيمة والانكفاء على الذات والتقوقع داخل القرية - البلد، يعكس عبد الحميد هذه الفكرة بكاميراته من خلال المشهد الذي يعتلي به الأطفال الثلاثة الشجرة أثناء عودتهم من مدرستهم فيسقط المطر ويبدؤون بالاغتسال بالتزامن مع غنائهم أحد الأناشيد الوطنية الموجودة في كتبهم المدرسية، إن هذا المشهد هو خير مثال على تحول هؤلاء الأطفال الثلاثة إلى أيقونات تختزل حلم جيل لطالما حمل آمال جيل الهزيمة بالنصر والتفاؤل بالغد الأفضل. والجدير بالذكر هو الأداء اللافت لـ«قمران وزيتونة» في العمل، حيث ظهر مدى تعمق الأطفال في شخصياتهم، وقدرتهم على التعايش معها على الرغم من ابتعادهم عنها عشرات السنين.
الترحال.....طفل النكبة
يتحول الطفل الفلسطيني في فيلم «الترحال» للمخرج ريمون بطرس إلى رمز يدلل على جيل كامل من الأطفال الفلسطينيين الذين عايشوا النكبة وعاشوا مرارتها وترحالها، فإن فيلم الترحال وعبر تصويره لمرحلة النكبة الفلسطينية وإرهاصاتها وظّف الطفل الفلسطيني المنكوب من خلال شخصية «أحمد» ابن «جمال سليمان» ذاك الرجل المنكوب. يمرر الفيلم من خلال «الطفل الرمز»، إن أمكن تسميته بذلك، يمرر رغبة الطفل الفلسطيني بالاستقرار والعودة إلى وطنه فلسطين، ويصور بطرس هذه الفكرة عن طريق المشهد الذي يركض الطفل وراء أبيه مناديه «أبوي...أبوي...لا تروح» وهنا يتنازع في الطفل شعوران، الأول عوزه لبقاء أبيه بقربه يشعره بالأمان والحنان، والثاني رغبته بتحرير فلسطين من خلال الكفاح المسلح الذي ينتمي له الأب، وهنا يتجاوز «طفل الترحال» ترميزه كطفل فلسطيني منكوب، إلى كونه الجيل الجديد الذي يتيه بين متاهات الخلاص والعودة والتحرير وبين الحنين للأهل والعطف والحنو. وهكذا برز الطفل في فيلم «الترحال» كرمز يدلل على جيلين، الأول جيل الأطفال الفلسطينيين الذين عاشوا النكبة وتذوقوا حنظلها وارتبطوا بأراضيهم فما تنفك ألسنتهم عن ذكرها إلى اليوم بعد أن بلغوا من الكبر عتيا، والجيل الثاني هو جيل الشباب الذي يطمح لتحرير أرضه التي لم يرها.
الليل....الطفل كشاهد على العصر
يتجلى التركيز على «الطفل الأيقونة» في فيلم «الليل» لمحمد ملص، من خلال جعله شاهدا على العصر، إذ يظهر الطفل في بداية العمل عندما يطلب منه احد الثوار الذاهبون إلى فلسطين، يطلب منه تصويرهم صورة تذكارية، إن فعل التصوير الذي يقوم به الطفل في بداية الفيلم يجعل منه شاهدا على عصر الخسائر والهزائم العربية، ولاسيما تأكيد ملص هذه المقولة عبر العديد من المشاهد التي يظهر بها الأطفال بدور المراقب والشاهد دون المشاركة بالحدث، وهذا ما يتجلى في المشهد الذي يدخل به «شكري القوتلي» إلى مطبخ الجنود ويتفحص الطعام ونظافته، وهنا يطل الأطفال من نافذة في السقف وكأنهم يراقبون بعين من الخارج هذه الفترة الزمنية المتخبطة سياسياً، يعمق ملص فعل المراقبة عند الطفل عندما يصور أحد محال الخردة بعيني الطفل مظهرا بعض الأواني مذياعاً قديماً وآخر أحدث منه.... بساطير عسكرية.... بطانيات... فوانيس.... خوذاً.... وتقف حركة الكاميرا عند البسطار العسكري يعتلي هذه الخردة التي تدل على متناقضات العصر، إن اعتلاء البسطار العسكري لهذه الخردة يرهب الطفل فيهرب مسرعا بعد أن أدرك أن كل هذه الأشياء التي أحبها تسقط تحت نيران الجند وبساطيرهم. بعد منتصف الفيلم يتعمق إحساس «طفل الليل» بالواقع، ويتضاءل فعل الشهادة والمراقبة للزمن وحركته في المكان، فنرى الطفل «على الله» ابن «على الله، فارس الحلو» وزوجته «وصال، صباح الجزائري»، يشعر بالوهم الذي يعيش به، فعندما يخرج أبوه من السجن ويتجه فورا إلى دكان «أبو وصال» الرجل الانتهازي، ويبدأ بتحطيم المحل حتى يصيره ركاما وذلك بالتزامن مع صوت الراديو الذي يذيع بيانات الاستقلال وانتهاء الانتداب والفرحة بعيد الجلاء، يرافق مشهد تحطيم المحل من قبل «على الله الأب» صراخ «على الله» الطفل: «هاد مو أبي... مو أبي.... يا أمي هاد مو أبي اللي حكتيلي عنه...» إن هذه الكلمات تعكس مدى اصطدام الطفل بالواقع، وانتباهه للوهم الذي عاش به عن الأب الناجح الوديع رمز البلاد الجميلة المستقرة... ورؤيته للواقع القاسي متمثلا بالأب القاسي الشرير الذي يحطم دكان جده. من خلال السابق يتضح شغل ملص في «الليل» على جعل الطفل كشاهد على عصر حافل بالمتناقضات السياسية، وجعله أيقونة تختزن بداخلها جيلاً كاملاً من الأطفال الذين اصطدموا بالواقع السياسي بعد أن صورته لهم الراديوهات على أنه واقع حلو وجميل.
بالالتفات إلى الأدوار الطفلية في هذه الأعمال السينمائية السورية وغيرها، يتوضح مدى شغل مبدعي السينما السورية على توظيف الطفل كرمز ودال وأيقونة تحمل الكثير من المقولات السياسية والفكرية والفلسفية والاجتماعية، وخروجهم عن تكريسه كنمط، وتجدر الإشارة إلى تميّز كل الأطفال في الأدوار السابقة في أداء أدوارهم واستيعابها على الرغم مما تحمله من مقولات وأفكار كبرى.