2013/05/29
لبنى شاكر – تشرين
راهبٌ بوذي يحترق حياً، طفل يرقب أباه المعتقل في غوانتانامو، تمثال صدام حسين في لحظة سقوط، والكثير من صور ستفعل فعلها من جديد كلما استحضرتها الذاكرة، لذا ربما يأتي السؤال مباغتاً (كيف وصلتنا هذه الصور، هل حقاً كانت عفوية، وماذا إذاً عن فعلها فينا، والأهم أين مكمن الحقيقة؟).
بديل للواقع
لا خلاف يطول أهمية الصورة، ودورها في تشكيل الرأي العام، حتى إنها باتت اليوم دليل إدانة واضحاً لكثير من مفاهيم وقناعات لم يكن الشك ليطولها يوماً، وعلامة قادرة على إحداث فرق كبير بمجرد تصدرها الشاشات، لكن وفي المقابل ظهرت تقنيات وبرامج يمكن استخدامها للعب بمكونات الصورة، أو حتى صنعها من لا شيء، فإلى أي درجة ما زالت الصورة مصدراً موثوقاً لحدث أو واقعة؟
تؤكد د. نهلة عيسى نائب عميد كلية الإعلام للشؤون الإدارية أن الصورة كانت على مدار التاريخ أهم مصادر تأكيد وقوع الحدث أو واقعيته، أرسطو قال منذ آلاف السنين «الصورة بألف كلمة»، وهي اليوم سيدة العصر، بمعنى أن الصورة أصبحت بديلاً للواقع، لسبب بسيط هو أن الناس لم يعد لديهم الوقت، ولا الرغبة للحصول على المعلومة بطرق أخرى بديلة للصورة، فأصبحت وسائل الاعلام وخصوصاً المرئية هي المصدر الأول للمعلومات.
يفترض أن هذا المصدر لا يأتيه الباطل لا من أمامه ولا من خلفه لأنه مدعم بصور توحي بأنها أخذت في مكان الحدث، بل وأثناء وقوعه، لذلك نقول الآن إن العالم اتجه إلى ما يسمى صناعة الواقع وليس نقل الواقع، بمعنى أن الإمكانات التكنولوجية الهائلة أصبحت تتيح لصانع الصورة أن يصنع صورة ليس لها أي مرجعية أو أصل عبر تقنيات الفوتوشوب والغرافيك، وأن يروجها ويسوقها على أساس أنها هي الواقع، فتصبح بديلاً للواقع، وبديلاً للخبرة الموضوعية والواقعية للبشر، بحيث أصبح الناس يشككون بخبراتهم الواقعية ويصدقون الصورة لأنها بالإمكانات التكنولوجية المتاحة، تبدو فائقة الواقعية وليست واقعية فقط.
تحريف لكل ما في الصورة
حقيقةً التحريف يمكن أن يطول جميع مكونات الصورة، ابتداء من اختيار زاوية معينة، ليشمل كل محتوياتها من ديكور وموسيقا إلى ملابس، وطريقة نطق أو حتى حركة الصورة كلها تدخل في باب تكثيف المؤثرات بمعنى زيادة الشحنة الانفعالية الناتجة عن رؤية الصورة إضافة إلى المونتاج كونه يحدد كيفية رؤية الصورة، وكل ما يمكن أن نسميه تكثيفاً أو زيادة المؤثرات التي تساعد على تمرير المعلومة كما يرغب صانع الصورة أو الخبر، كتلك التي تتضمن نوعاً من التجييش أو التشكيك أو إثارة الريبة أو زيادة مصداقية الصورة.
وترى الإعلامية لميس علي أن للصورة كما هو معروف دوراً أساساً في الإعلام المتلفز أحياناً يُبنى عليه في صوغ الحدث وأحياناً أخرى تغدو بذرة وأصل الحدث، فكم من صورة التقطتها عين مصور أصبحت سيرة وحكاية يبث لأجلها الخبر وتُعدّ التقارير، لكن هذا الدور لا يرتقي إلى المرتبة نفسها من الأهمية في الإعلام المكتوب (الصحافة).
ذلك أنك في المكتوب تخاطب المتلقي بالدرجة الأولى عبر الكلمة أداتك التي توصل ما تريد من أفكار إضافة إلى أنه لم يتمّ إلى الآن تفعيّل الصورة بالشكل المطلوب والمناسب، والذي يخدم غاية المقال في صحافتنا المحلية لأسباب عدّة.. وهو ما يجعل هذه (الصورة ) تعود إلى مرتبة ثانية وربما ثالثة في الأهمية.
بينما في المرئي، تضيف علي... يعوّل دائماً على البصريات لدرجة تمّ فيها تكريس العين ولا شيء سواها عنصراً أساسياً يتمّ استغلاله وجذبه وحتى تحريكه بالطريقة المُرَادة، ووفق التوجه (الهدف) الذي تبتغيه الوسيلة الإعلامية، تالياً مجال التلاعب هنا أوسع وأكبر فأنت فيما يتعلّق بمخاطبة العين تحرّك حاسة تراكم بدورها ذاكرة بصرية من دون تحليل أو تشغيل فكر، حيث يجري التأثير تلقائياً وحتى غريزياً..
من هنا ترى د. عيسى أنه ليس هناك حقيقة مطلقة، هي مرتبطة بعين من يصور، وحتى لو توخينا الصدق، فنحن ننقل جزءاً من الحقيقة وليس كلها، فكيف إذا كنت تضيف التطور التكنولوجي بمعنى التعديل على الصورة، إذاً هو تغييب للواقع مقابل واقع بديل، لذلك الصورة شديدة الخطورة اليوم، وأهم أسباب ذلك هو أن البشر استبدلت التفكير بالرؤية.
المسؤولية بين المتلقي ووسائل الإعلام
لكن حتى لو راقب المتلقي الصورة أو هيّأ له ذلك، فهل يمكن له أن يكتشف مكامن التزييف، أو الغاية من وراء أي تفصيل من تفاصيل الصورة، آخذين بالحسبان اختلاف وتباين مستويات المشاهدين وقدراتهم؟
تجيب د. عيسى أنه لا يمكن التأكد من الصورة خصوصاً في العرض المرئي التلفزيوني، لأن الصور تتوالى سريعاً، تالياً إمكانية التأكد هنا مستحيلة بالنسبة للمشاهد العادي، لكن ربما يستطيع ذلك حرفي أو مختص. المطلوب من المشاهد ألا يصدق كل ما يرى، وإن كان هذا يحتاج الى ما يسمى تحصيناً وطنياً، وإثارة انتباه المشاهد إلى أن الأشياء ليست كما تبدو عليه، إضافة إلى رفع السوية الثقافية للمشاهدين بما يتعلق بالصورة وبالتعامل مع وسائل الاعلام، وهذا يحتاج إلى فترة طويلة.
إذاً هي ليست مسؤولية المتلقي وحده بقدر ما هي مسؤولية وسائل الإعلام، والتي يمكن لها كما ترى «علي» تكوين رأي، وتشكيل وحتى تطويع ذائقة عبر الصورة التي تلتقطها العين وحدها ليتحوّل دور الإعلام من وسيلة تخديم المتلقي إلى وسيلة تخدير وربما أصبحت تنويماً من دون نسيان أن القضية ترتبط في كثير من الأوقات بتوجهات وغايات، ما جعل وسائل الإعلام في النهاية أداة تخدم كما شاهدنا مؤخراً سياسات، وهذه الأخيرة تُحيل وسائل الإعلام (المحطات التلفزيونية) من ناقلة للحدث إلى صانعة له.. الأمر الذي يجعل محرقة الآلة الإعلامية بحاجة لا تنضب إلى «حطب» المعلومة سواء أكانت مصوغة صحفياً أم بصرياً.
ودائماً ومتى ارتبطت الوسيلة الإعلامية بغاية تحرفها عن مصداقيتها أو سياسة محددة تُبعدها عن غايتها الأصلية المتمثّلة بنقل الخبر والمعلومة بمهنية وموضوعية، دائماً يستحيل هذا المتن من معايير الروح الصحفية الشفافة والحقيقية هامشاً، ويغدو الهامش حينها متناً.
مواثيق وقواعد تُوضع ولا يُعمل بها
وعلى الرغم من التطور التكنولوجي الهائل الذي طال وسائل الإعلام على اختلافها، يبدو أنه لا غنى عن أخلاقيات المهنة ومواثيق الشرف الإعلامي كونها المعيار الأول للعمل الصحفي على أرض الواقع.
وترى المخرجة والمصورة نادين الهبل أن الأخلاقيات الإعلامية أصبحت في خطر، وكذلك ثقة الرأي العام بالوسائل الاعلامية، فهو اليوم سلعة تتقاسمها وسائل الإعلام في العالم.
ومع كل التطورات المتلاحقة في عالم صناعة الصورة الإعلامية، فإن معظم المؤسسات الإعلامية لم تسن لنفسها ضوابط عمل محددة، للتعامل مع هذه التطورات، حيث تعمل معظمها من دون موجهات وأدلة تساعد العاملين بها على تعظيم استفادتهم من هذه التقنية الجديدة، ومن دون أن تأتي على حساب القيم والأخلاقيات والممارسات الإعلامية الواجب الالتزام بها.
لكن في بعض المؤسسات الإعلامية الغربية المشهورة ثمة أدلة تساعد في توجيه الصحفيين العاملين بها على التعامل مع المعالجة الرقمية للصورة، وتؤكد هذه الأدلة ضرورة احترام القارئ وعدم خداعه سواء عن طريق الخبر أو الصورة، وتطبيق المعايير الخبرية نفسها على المعالجة الرقمية للصورة، وعدم جواز تغيير محتوى الصورة، وضرورة تنبيه القارئ لأية تعديلات تتم على الصورة، وعدم التلاعب بها إلا لتحسين جودتها وممارسة أقصى درجات الحذر عند استخدام عمليات تعتيم أو تفتيح أو قص الصورة أو تغيير ألوانها، مع ضرورة تنبيه القارئ من خلال كلام الصورة لأية تعديلات تتم عليها، و في حالة ما إذا كان هذا الكلام أو التعليق على الصورة ضروريًا لفهم الصورة، فإنه لا ينبغي نشرها من الأساس، وكذلك تنص على عدم خداع القارئ بالإيحاء له بأن الصورة قد تم التقاطها بشكل عفوي، وعدم إعادة صناعة الحدث من خلال الصور.
من جهتي أقول إن الأمر عندما يخضع لسياسة ما فإن مثل هذه المعايير تصبح في ذمة التلفيق والفبركة.
عقلنة التكنولوجيا إعلامياً
يشير المخرج وسيم قشلان إلى أن التقنيات الحديثة والميديا في هذا العصر كانت السبب الأول في تغيير معالم الحياة ومعالجة الواقع بأسلوب سريع ومباشر، وهي أيضاً فتحت أبواب المعرفة تارةً وغزت العقول تارةً أخرى ..
ويتساءل قشلان «هل ننكر برغم واقعية الصور أحياناً أنها صناعة أي إننا استطعنا أن نصنع الحياة وأن نراها كما نريد أن نراها فمن شأن صانعيها أن يقولوا منها ما يريدون، ومن شأننا نحن أن نأخذ منها ما نريد، وإذا استطعنا في مجتمع عربي صنع الصورة فلنا أن نكشف أسرارها إذا استخدمت ضدنا».
في حين ترى «علي» أن غلاف التأثير الإعلامي الذي يحيط بنا كيفما توجّهنا وأدرنا حواسنا «سمعية بصرية» لن يمتلك حيلة على الرغم من كل أدوات جبروته الظاهرية أمام ثقب أوزون ينتهك سماءه، أوزون العلم والوعي والثقافة الذي سيبدو قبالته هشاً، وهو يتحيّن نقاط ضعف إمبراطوريات إعلامية وهمية. والأهم الاستفادة من أهمية الصورة وتفعيلها بالشكل المأمول.
وتؤكد د. عيسى أنه يتوجب على وسائل الاعلام أن تطور نفسها للحاق بالتطور التكنولوجي، بالشكل الذي يخدم أجندتها، كما يجب أن تعقلن هذه التكنولوجيا وتجيريها لمصلحة خدمة الإنسانية، لذلك وجدت مواثيق الشرف الإعلامية، وهذه التي وقعت على مستوى العالم ككل هدفها تهذيب الأداء الاعلامي، والحد من توحش التكنولوجيا الذي التهم كل شيء، لكن للأسف المواثيق توضع ولا أحد يلتزم بها، ولاسيما أن وسائل الاعلام ترتبط بمؤسسات مالية كبرى، وكمؤسسات العولمة اتجهت وسائل الاعلام إلى التوحش خدمة لتلك المؤسسات، التي تريد أن تهيمن على العالم فكراً واقتصاداً، لذلك تضيع الحقيقة من أجل المصلحة.