2012/07/04
مشهور خيزران - البعث
على شراع العاصفة، أبحر المخرج السينمائي غسان شميط نحو أكثر الروايات السورية صعوبة، وربما العربية، ليس من ناحية التنفيذ بالغة التعقيد والمخاطرة سينمائياً فقط، إذ يتم تصوير أحداث هذه الرواية "الشراع والعاصفة" للروائي السوري الكبير "حنا مينه" في عمق البحر، حيث عاصفة بحرية هوجاء لا تنفك تثور، بل أيضاً من الناحية الأكثر أهمية، وهي الوصول إلى ذلك الزلزال الفكري عند الأديب "مينه"، وبهذه الرواية بالذات التي قال عنها المفكر والباحث المصري سلامة موسى: «الشراع والعاصفة» نقطة انعطاف تاريخية في الأدب الروائي العربي، إلى جانب ثلاثية نجيب محفوظ «قصر الشوق -السكرية -بين القصرين»، ومع "نجيب محفوظ وحنا مينه" نستطيع أن نقول: إن روايتنا العربية لا عائق من اعتبارها عالمية.
وهنا حين يتصدى الفنان شميط لهذه العاصفة الإبداعية، نزعم أنها الشجاعة المتناهية والثقة العالية بالنفس، لأن لهذا الكاتب العملاق«حنا مينه» عوالم من التحدي يتعذر اقتحامها، موغلة في محليتها، واصلاً بها إلى العالمية المكانية والزمانية، حيث يتشابه الناس بأرجاء المعمورة من حيث معاناتهم وصراعاتهم وعواطفهم.. إلخ.
ولعل المتابع لهذا الروائي وفي كل ما كتب، سيطالعه ما تنطوي عليه شخوص أعماله الأدبية المركبة، من حيث بناؤها الاجتماعي والعلائقي والنفسي والفكري، إذ نجدها تجمع في ثناياها الغضب والحلم، السلاسة والتعقيد، الصحة والخلل، الاسترسال والتوحش، فالشخصية في رواياته لا تسير على نسق واحد لا يتفاوت ولا يتباين، ذلك لأنها من لحم ودم، وبالضرورة ستكون انعكاساً لوجودها الاجتماعي بكل مواده ومده وجزره، تؤثر وتتأثر، فعند "حنا مينه" لا أشياء مطلقة، إذ ليس من إنسان إيجابي بالمطلق أو سلبي بالمطلق، ولا هناك من هو منتصر إلى الأبد ولا من هو مهزوم إلى النهاية، هذا ما استخلصناه من رواياته.
وكما تحدث هذا المبدع عن تجربته وأسلوبيته بتناوله لأبطال رواياته بنفس وتقويم صفاتهم والآيديولوجيات التي ينتهجونها، والتي لم تكن خالصة الصفاء أحياناً، ولا تتعدى هذه الشخصيات كونها من البشر يمتد تشكلها من ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، وبغير هذا سيكون ضرباً من العبثية، فأضحت الرواية والسيناريو كقصيدتين اتفقتا بالوزن والقافية، وهنا ماذا أضاف السيناريو وماذا اختزل؟!.
تمكن الأستاذان "شميط ويوسف" من ضبط الإيقاع، إذ جعلاه متواتراً مدروساً دون الوقوع بمطبات التوتر الانفعالي المجاني، كما يحدث في سينمات السلق التجاري، فقد وضعاه بإحكام بما يتلاءم وديناميكية الحدث "الفعل الدرامي" دون إغفال عناصر التشويق في "اللغة البصرية "اللقطة"، للوصول بالمتلقي إلى حالة من الاندهاش وبغير استهلاك لفاعليته العقلية والعاطفية، أما ما تم اختزاله فكانت تلك التفصيلات الحياتية التي تستوجبها الأصول الروائية، من حيث الاسترسال في أدق التفاصيل لأبعاد شخصية البطل ومن يدور بفلكه من أبطال آخرين بين دفتي الرواية، وكذلك تعدد الأماكن التي تجري بها الأحداث، إذ يذهب الروائي إلى حيث يأخذه السياق قافزاً بأبطاله من مكان إلى مكان جرياً خلف خياله.
أما في السينما فالأمر مغاير وربما يكون شديد الاختلاف، ففي قوتها التقنية تتمكن من تغليب اللغة البصرية "الصورة" على لغة الحوار الكلامي والإسهاب فيه، وبذلك تكون الفكرة المتوخاة قد وصلت للمشاهد من خلال إشباع ذاته، بتشغيله لكافة حواسه وإحاطته الكلية لما يجري على الشاشة بتسلسل وترابط مفعمين بالمتعة والفائدة.
كما تدخّل الإخراج باستبدال خطوط بعض شخوص الرواية دون المساس بتركيبتها الاجتماعية والفكرية، كما أصبحت شخصية اليساري "إسماعيل كوسا" من معلم مدرسة في النص الأساسي إلى عتّال في الميناء، وأبقى عليه عناصر التزامه بمعتقده السياسي، وكذلك "الريس الطروسي" الذي يموت واقفاً كما وضعه الأديب "مينه"، بينما المخرج شيمط لم يدعه يموت، ففي كلا الحالتين لم يركع ذلك البحار الشجاع حتى للغول العاصف الرهيب "البحر".. كما عمّق الإخراج الصراع بين رأس المال-مالك الميناء ووكلائه- وبين العتّالين والأُجَرَاء من عمال وصيادي أسماك عاديين، وقد برع بذلك أيما براعة بإبرازه للشر والغطرسة عند المستغلّ والجبن واحتمال الإهانات عند العتالة المستغَلّين تماماً كما أرادها الكبير "حنا مينه".. وهكذا كوّن المبدع "غسان شميط" أدلته في فيلمه "الشراع والعاصفة"، وصاغ خطابه الفكري السينمائي بتصديق لهذه الرواية التي يخيل لقارئها على الورق أنها عصية على التنفيذ ومستحيلة.
كان لي الشرف -كممثل في هذه الرواية الخالدة- أن ألعب دور اليساري «إسماعيل كوسا»، أنا كاتب هذا المقال خلف أساتذتي الكبار نجوم الدراما السورية الزهيرين الرائعين زهير رمضان «القبطان» قائد الميناء، وزهير عبد الكريم «أبو حميد»، وماهر صليبي «الريس الرحموني»، وجرجس جبارة «أبو محمد عامل المقهى»، وعبد الله شيخ خميس«صاحب الخمارة»، والنجوم الشباب: آندريه سكاف «وكيل الميناء»، وحسام عيد «أبو رشيد صاحب الميناء»، ووضاح حلوم «البلطجي صالح برو»، وعبد الكريم غميض«الجانودي»، وهاني الأطرش «التاجر أحمد»، ودرغام«البحار رمضان»، والأستاذة القديرة هدى شعراوي «زكية مستخدمة هدى»، والنجمة رندة مرعشلي «هدى» والصاعدتين الفنانتين ريما الشيخ «زوجة الرحموني»، وكوبا رشيد «زوجة البحار أحمد»، ولا بد من الشكر للمخرجين السينمائيين المساعدين أيمن حمادة ورسلان شميط وعمار حبيب، وكل من الفنيين الأوكرانيين الأصدقاء ممثلين بمدير التصوير أنا تولي، وكافة الفنيين عمال الصوت والإضاءة والسكريبت والملابس والمكياج ومساعدي الإنتاج، وبالأخص مدير الإنتاج فايز السيد أحمد الذي يدأب على تقديم كل أنواع التكريم والاهتمام بفريق الفيلم «الشراع والعاصفة»، وكل التحية لمجموعات الكومبارس نساء ورجالاً الذين أبلوا أحسن البلاء ضمن أقسى الظروف التي اكتنفت التصوير.