2012/07/04
أحمد علي هلال - البعث
على الأرجح أن فن "الدوبلاج" بتقنياته المعروفة، ليس فناً معزولاً عن الفنون الأخرى بل يتعالق معها بمستويات مختلفة، بصرف النظر عن مراحله وتاريخه، والسجال حول دخوله فضاءات السوق، فالعرض والطلب، ومن ثم معايير جودته وموضوعاته المنتقاة، سيما في الدراما التلفزيونية-على أهمية ذلك-لكنه ما زال يطرح على متلقيه باتساع الطيف وتعدد المكونات، أسئلة متواترة، لعل منها ما يتصل بالأفكار والثقافات، عبر أصوات فنانينا، في مستوى عبورها أو اختراقها لما استقر في بنيتنا الفكرية والعاطفية والاجتماعية، وأنماط التفكير المختلفة.
وقد تتبدى المسألة هنا بحوار ثقافات عبر نسيج درامي محكم، يديره ممثلون خبروا لغة الكثير من الأعمال الدرامية، منذ الاحتكاكات الأولى، وصولاً إلى طغيان الدراما التركية وسوقها الواسع الانتشار في أكثر من قناة عربية، ومعها بث نمط من التفكير أشاعته ثقافة تلك الدراما، أي توغلها مساحات غير معروفة، اعتماداً على صورة طليقة ربما ترمم فجوات النصوص، لكن للمسألة سياقات إضافية كما يقال تبتدئ ولا تنتهي، سيما وأن مناخات الدهشة الأولى قد انداحت، وأن الحكايات تشظت، رغم "تمطيطها" على مدار حلقات تتجاوز قدرة-المتلقي-على المتابعة، وجماليات الصورة وتعدد زواياها، أصبحت فيما يبدو عبئاً، بل ترفاً مضافاً، سياقات ستتفحص من خلال الحكايات بطابعها "الرومانسي" التشويقي كلاسيكية المقولات المتشابهة، مع تدرج القضايا التي تُطرح في صراعات تقليدية على الثروة، أو الفوز بقلب امرأة، أو مقاربة إشكاليات لغوية أو جغرافية مسلسل "الغريب" مثالاً، أو الانفتاح على ما يتصل بصراع "المافيات والسلطة"،عبر مشهديات مشوقة وقد تحبس الأنفاس.
لقد خبر المتلقي الكثير من تلك الأنماط الحكائية "الموضوعاتية" التي استنفذت دهشته، وأصبحت العادة هي ناظم المشاهد، بعد أن انفرط عقد المتعة والفائدة، وما يلفت الانتباه في أعمال بعينها بالرغم من كثافة ترويجها على المستوى العربي، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر "نور، سنوات الضياع، العشق الممنوع"، كيف تتكرس الشخصية الأنموذج في وعي ولا وعي متلقين على امتداد الفضاء العربي، لنقف على مفارقات تراجيكوميدية، حد التماهي أو صوغ مثل أعلى، مفارقات تعكس تجلياتها هدم الواقع في مقابل المتخيل، حيث يتداخل الواقع بالدراما على نحو مثير، في سياق ما ترويه "الصحافة" من حكايات مختلفة عن نفوذ الشخصية ليس بالمعنى الدرامي، بقدر ما تثيره من حوافز سلبية أكثر منها إيجابية، ذلك أن طبيعة عاطفية ما زالت تحكم استقبال تلك الأعمال وغيرها، بساعات بثها الكثيرة وإعادة ذلك أيضاً، مما يخلق معايشة للأبطال المحتملين، وبالرغم من أن الممثل صاحب الصوت يعيش حالة ومعاناة لجهة تركيب الصوت ونقل الإحساس ولا سيما الممثل السوري في مصاحبته للشخصية-الصورة-يسعى لتكامل أدواته ليطور الشخصية بشكل حقيقي كما يصرح بذلك الكثيرون ممن دخلوا غمار المهنة ليحققوا معادلة المتعة المزدوجة، يبقى في لحظة "الخفاء والتجلي"، بطلاً غائباً سوى من صوته ودرجة تطابقه مع إحساسه بأنه يقف وراء الشخصية الرئيسية.
أصبح الدوبلاج فناً متكاملاً بفضل تنوع اللهجات،واللغة الدرامية التي تأخذنا إلى ما هو مشترك أو مختلف في سياق هواجس كثيرة من شأنها أن تملك حكم قيمة في ثقافة تخترق منظومات قيمية سائدة، وبفضل نكهة ربما تبدت بروح شرقية، ولتدخل في منافسة مفتوحة لأجل مسمّى، مع الدراما العربية، لكن مفهوم السوق الذي يمكن أن يطيح بالقيمة، قد يجعل من ساعات البث الطويلة أكثر استدراجاً لانقطاع التلقي وانفصاله جزئياً ليعود فناننا بصوته وصورته، حاضراً في مساحته، لصيقاً بقضاياه المعاصرة، وتفاصيله المجتمعية، الأكثر إثارة للأسئلة الجدية التي تعني ثقافة تسائل واقعاً بعينه، فيما لا يمكن تجاوز سؤال مشروع: ماذا لو دبلجت أعمالنا إلى العالم الآخر، ثمة ثقافة تحاور أخرى لعلها تتصل بما يعنيه المشترك الإنساني بعيداً عن خفة المقولات، ولغة السوق لطالما شكل فن دوبلاج ترجمة مهنية وإبداعية، لا تكتفي بتعبير الصورة، بل بإخضاع "المضمرات النسقية" المتسللة عبر ثقافات الآخر والتي لا يتماسك خطابها الدرامي في الأغلب الأعم، ليصبح تحت مجهر النقد، وليس بوصفه –فن الدوبلاج-المنافس أو البديل للدراما السورية أو العربية، بل وقوفاً على جدلية عبوره أو اختراقه استشرافاً لأبعاده التقنية-الفنية والمهنية.. والأخلاقية.