2012/07/04
فاديا أبو زيد لم يكن تخصيص فضائية للدراما في سورية مخاطرة، فنحن نعلم ما لدينا من "أرشيف" فني، غني وعريق، يعود إلى زمن بعيد وقريب في الآن نفسه، يمكن الاعتماد عليه لتغطية ساعات بث كثيرة، وقد حرّض هذا "الأرشيف" خليطاً من المشاعر نحو مسلسلاتنا السورية القديمة، لاسيما تلك التي تعود إلى أيام الأبيض والأسود، والتي لا تزال ذكراها حيةً في قلوب شريحة كبيرة من الناس، بدؤوا يعيشون معها الآن طقساً خاصاً من الحنين إلى ذلك الزمن الجميل الذي كُنَّاه، إذا ما عددنا الفن انعكاساً للمجتمع. وعلى عكس التوقعات، أثارت هذه الأعمال كثيراً من التساؤلات الجمالية والتقنية حول ذلك التغيير الذي أصاب هوية درامانا الحديثة المنتجة بتقنيات متقدمة، مقارنةً بتلك التي كنا نراها في السبعينيات، وعلى الرغم من بدائية الإنتاج والتصوير، إلا أن حرارة تلك الدراما لا تزال تلمسنا بصدق، فأداء ممثليها، وحيوية حكاياتها، ومحاورها الدرامية بما تحمله من تراجيديات، استطاعت في مجموعها الاحتفاظ بحميميتها ومناسبتها لواقعنا الراهن، تلك الحميمية التي بدأت تخبو في درامانا الحديثة. أسباب كثيرة تقف خلف قوة الدراما القديمة، فطبيعة المرحلة التاريخية التي ميزت المشتغلين بجدية في الفنون كافة، غلبت على طريقة حياتهم وتعاطيهم مع الفنون كلها، ومنها الدراما، فرأوها منبراً آخر للتوعية والتنوير، مع كُتَّاب قادمين من الرواية، كحيدر حيدر، وصدقي إسماعيل الذي حُوِّلت روايته "الله والفقر" إلى عمل تلفزيوني يعاد إنتاجه اليوم، هو "أسعد الوراق"، الذي يُعدُّ أيقونة في الدراما السورية بعد النجاح الذي حققه بإضافته بعداً آخر إلى الرواية، والذي وقف وراءه ممثل يتعامل مع مهنته باحترام، على الرغم من تأخر تقنيات الإنتاج التي تُعدّ عنصراً إيجابياً في نجاح العمل. تقنية التصوير التي كانت متبعة في البدايات، هي: "ون شوت"، أي تصوير المشهد كاملاً، من بدايته إلى نهايته، هذه التقنية التي لا يزال التلفزيون المصري يعتمدها في الدراما، كانت تجبر الممثلين على حفظ المشهد كاملاً، دون تقطيع، وفي حال وقوع أي خطأ، يعاد هذا المشهد كاملاً من بدايته، ومن هنا برزت أهمية "بروفات الطاولة"، التي زالت من الدراما السورية الحديثة، بعدما كانت هي الخطوة الأكثر أهمية في العمل الدرامي، فهي تأخذ الوقت الأطول والجهد الأكبر من الممثلين والمخرج، لكنها، في الوقت نفسه، تساعدهم على دخول الحالة الدرامية للمشهد، والانغماس فيها إلى حد يصبح فيه الفاصل بين الممثل والشخصية معدوماً. ويومئذ، كان على كل ممثل قراءة السيناريو كاملاً كي يتقن شخصيته، ويقترح لها الحلول، فقد كانت الشخصيات أدبية، ومتقنة الصنع، وذات تمايز بنيوي نفسي واضح، ولهذا السبب، ربما، أصبحنا نشاهد الكثير من الشخصيات مسطحةً، وخاليةً من أي عمق، ومن دون بنية واضحة. تطورت التقنيات، وبدأ التقطيع.. وانطلق هيثم حقي بكاميرته خارج حدود الأستوديو، وأصبح للكاميرا الواحدة آفاق في التعبير، ما لها حدود، ولكن الهدف الأساسي من وراء الأعمال الدرامية ظل هاجساً واضحاً في أعمال حقي، كما استمرت بروفات الطاولة، فلم يكن مسموحاً للممثل إلا أن يكون صادقاً ومنفعلاً، كي يكون مؤثراً، ومن ثم يوصل الرسالة، ويورط المشاهد في متابعته، ويحرضه على الانفعال، ومن هنا يصبح صعباً عليه نسيان العمل أو تجاهل شخصياته، وعندما يستذكرها تعود إليه تلك المشاعر التي عاشها مع العمل. إضافة إلى ذلك لا ننسى حالة الجدل حول مفهومات حياتية وأخلاقية شتى، كانت تشكل طقساً موازياً ولاحقاً للحلقة التلفزيونية، وتذكر الأمهات كيف كانت الحكايات تعاد في لقاءاتهن الصباحية. اختفى هذا الطقس، ولم يعد ممكناً، مع تفاقم ذلك الضخ العشوائي للدراما على الشاشات، وسنة بعد أخرى، يأتي رمضان ويرحل دون أن تعلق في ذهن المشاهد شخصية درامية ملفتة أو مؤثرة. حتى المشاهد نفسه لم يعد يريد أن يفكر، وأعجبته حالة الاسترخاء أمام "آكشن" مفتعل، وحكايات مكررة. الجميع يريد اللحاق بالموسم، والجميع يتعاطى مع شخصيات عمله بشكلها وانفعالها الخارجيين، وأصبحت بروفات الطاولة من الماضي الغابر، فلا يُرسَل إلى الممثل إلا دوره فقط، ولم يعد مستغرباً مشاهدة أحد الأبطال في عمل ما، وهو لا يعرف كيف يتكلم عن هذا العمل حين يُسأل عن دوره فيه، لأنه، في الواقع، لم يقرأ إلا دوره فقط، وقد تحولت وظيفة الممثل على الرغم من حرفيته، من متقمص للشخصية إلى مؤد سلبي، لا يستطيع التأثير في المتفرج، وأصبح من الطبيعي ألا نرى سوى شكل واحد للغضب، ومثله للفرح، وممثل يتعاطى مع الحالين بالطريقة نفسها، في ستة أعمال، فيلتبس الأمر على المتفرج، وهو يحاول أن يستجمع قواه ليعرف ما الذي يشاهده الآن. ساعدت الكاميرا الواحدة على تكريس هذه الحال، حين أخذ استخدامها يحيد عن المهمة الحسية للمشهد، بعد امتلاك إمكانية تصوير حوار بين ممثلين ليسا متواجدين معاً في "اللوكيشن"، إضافة إلى إمكانية التقطيع التي تتيح للمخرج رصد حالة ما من أكثر من زاوية، وهذا، بالتأكيد، أمر متعب لفريق العمل، ويكلف جهداً تقنياً مضاعفاً بسبب تغيير الإضاءة، وجهداً إضافياً من الممثل الذي يجب عليه أن يعطي الانفعال نفسه أثناء تبديل زاوية التصوير لأخذ اللقطة، مما جعل الممثلة المصرية إلهام شاهين تعلن أنها لا ترغب في خوض تجربة أخرى في التصوير بكاميرا واحدة. ربما يكون الحل في أن نأتي بالجميل من القديم، معيدين الاعتبار إلى دور الممثل في الدراما، ومن ثم نضيفه إلى التقدم التقني الحديث، لنصنع عملاً درامياً ذا هوية سورية حقيقية، ولكن هذا لن يتحقق، ونحن محكومون بالموسم الرمضاني، الذي يعوق تطور الدراما، ويضعها في مآزق صعبة، على حد تعبير الكاتب فؤاد حميرة في أحد اللقاءات، ولن يتحقق أيضاً، عندما لا يتاح للعاملين في هذا المجال الوقت الكافي، إن كان في الكتابة، أو في التمثيل، أو في الإخراج، لاسيما ونحن نسير قدماً في اتجاه مزيد من التسطيح والابتعاد عن دور الدراما المهم في حياتنا، وقد آن الأوان لنقول: على أحدهم أن يأخذ موقفاً، ويبادر إلى تقديم النموذج. هي فسحة لمقالات ضيوف البوسطة.. نقدم فيها مقالات جادة تشكل بنية لحوار طموح في شؤون الفن في سورية والعالم العربي.. ويدفعنا الأمل بمشاركة كل كتابنا الغيورين على الفن الجميل. ملاحظة: لا تعبر آراء الكتاب بالضرورة عن رأي الموقع.