2012/07/04
شكري الريان
أيام المرحومة الكتلة الاشتراكية (طيب الله ثراها) في أوروبا الشرقية، كانت حركة الإيفادللدراسة هناك في الجامعات والمعاهد العليا ومن دول "العالم الثالث"، ونحن من ضمنها، كانت هذه الحركة في أوجها. ومن بين النكات التي عاد بها إلينا الموفدون نكتة درجت تقريبا في معظم المدن الجامعية المنتشرة هناك. هذه النكتة تقول "إن رأيت ضوءا مشتعلا في نافذة غرفة في المدينة الجامعية في وقت متأخر من الليل فاعلم أن قاطن الغرفة هو، إما فيتنامي يذاكر دروسه، أو عربي يناقش في السياسة، ،أو (جنسية لن نذكرها) يمارس الـ (لن نذكر الفعل أيضا)، أو (جنسية أخرى لن نذكرها) يحتسي الكحول".. الآن يكفي أن تمر في أي مدينة عربية ليلا أو نهارا، وبالتالي لا داعي لاستهلاك الكهرباء بدون مبرر، وتنظر إلى نافذة منزل أو مكتب أو حتى مدخل محل تجاري لتدرك أن الجميع عندنا يفعلون شيئا واحدا.. إنهم يشاهدون التلفزيون!!!!.. لسنا بحاجة إلى إحصائيات موثقة لندرك أننا من أكثر أمم العالم متابعة للتلفزيون، يكفي فقط أن نتلفت حولنا، هذا في حال وجدنا الوقت لنبعد أعيننا قليلا عن الشاشة، لندرك أن الجميع يمارسون تقريبا نفس "النشاط". وأمام هكذا "اجتياح" للمشاهدة صار من حق الجميع أن يقول "الجمهور عايز كده".. ولكن حقيقة ماذا يريد جمهورنا؟!!.. بداية علينا أن نقر بأن اقتصار النشاط العام خارج إطار العمل على نشاط رئيسي يكاد يغطي وبدون مبالغة ما يقارب 60% من النشاط في أوقات الفراغ، اقتصار هذا النشاط على متابعة التلفزيون فقط يشير حقيقة إلى مشكلة كبيرة جدا. فبقية الأنشطة تكاد تكون غائبة وأولها "المرحومة" الثانية "القراءة". ولكن هذا موضوع آخر ضمن سياق آخر، ولو أنه من الواجب والضروري جدا أن نسأل سؤالا نراه هاما حول آخر كتاب عربي أحدث ضجة وحقق نسب مبيعات فاقت الرقم السحري "1000 نسخة من كل كتاب" نقصد بالألف عدد النسخ المطبوعة. أما المبيعات فهي بالمئات في أحسن الأحوال!!.. والمشكلة لا تكمن فقط في "الجمهور" الممتنع عن القراءة، إنما أيضا وللإنصاف، بات من الضروري أن نسائل كتابنا وناشرينا مع قرائنا إن وجدوا. إذا نحن أمام نشاط من نوع خاص مصمم خصيصا للاسترخاء وعدم بذل الجهد والنقود. يكفي فقط أن تضغط زرا واحدا ليأخذك هذا الزر إلى عالم آخر مليء بكل أنواع... أنواع ماذ؟!!.. هنا السؤال.. في عددها الصادر في 14 مايو أيار من العام الجاري، نشرت الحياة اللندنية تقريرا مفصلا عن "استعمار فرنسي تلفزيوني لإطاحة القنوات المغاربية الهشة" هكذا حرفيا كان عنوان التقرير. وفي التقرير أن مجموعة كنال بلوس الفرنسية اهتدت أخيرا إلى حل يرضي الجمهور المغاربي العريض الذي يتابعها عبر البطاقات المقرصنة. فقررت أن تطرح في الأسواق المغاربية بطاقات "أصلية" وبأسعار مخفضة تناسب مستوى دخل الجمهور المغاربي. ففي نهاية المطاف وجدت واحدة من أضخم المجموعات الإعلامية في العالم، وجدت نفسها مضطرة لـ "مجاراة" سوق يطلبها بحدة، فخففت من أسعار بطاقاتها ليس كرمى لعيون المشاهدين المساكين اللذين لا يملكون سعر البطاقات الأصلية، بل لأنها لا تريد أن تخسر "سوقا" سيعطيها فارق السعر وفوقه أضعاف من الأرباح التي سيوفرها المعلنون بعد أن يدركوا أن جمهور "سوق عريض" بات يشاهد قنوات هذه المجموعة. وبما أننا في المشرق فنحن وحسب التصنيف الجغرافي القديم "بعيدووووون" عن المغرب. ولكن حسب التصنيف "الاتصالاتي" المعاصر فنحن نعيش معا (مغاربة ومشارقة وآسيويون وأفارقة وأوروبيون و..) في نفس المنزل ونفس الصالون حتى. والأهم أن أخوتنا المغاربة هم أصلا من نفس المنزل حتى بالتصنيف الجغرافي القديم. وهم ونحن نتكلم نفس اللغة وننتمي إلى نفس الثقافة والدين "بأغلبيتنا" ولنا نفس الطباع والعادات "كلنا". مع فارق أن أخوتنا في المغرب ونتيجة ظروف تاريخية معروفة يجيدون لغة أجنبية بالإضافة إلى لغتهم الأم. بينما نحن المشارقة ونتيجة ظروف معاصرة معروفة أيضا نسعى لامتلاك لغة أخرى. وبالتالي ما دمنا "على الهواء سواء" وغير معنيين بالقيام بأي نشاط آخر سوى المشاهدة كونها الأقل تكلفة والأقل (لا داعي للمتابعة لظروف تاريخية ومعاصرة معروفة).. فقد بتنا من النوع الذي يرضى بما يعرض عليه. وكلما اتسع نطاق العرض كلما كان هامش "حريتنا" أكبر. والحرية مغرية حتى ولو مورست على كرسي مريح أمام شاشة صاخبة. وبالتالي على أصحاب "العقول الفذة" أن يبدؤوا بملاحقتنا لمعرفة ماذا نريد. اليوم بدأنا هجرة باتجاه الجيران وبلهجة نألفها ونعرفها. وقبله كان هناك المكسيكي. وبينهما كانت محطات خاطب أصحابها عقولنا وأذواقنا باحترام جعلنا نعدل جلستنا المتراخية على كراسينا أمام شاشتنا ونصغي باهتمام. ولكن للأسف هذه المحطات بقيت محطات، وعاد السيل من جديد ليغمرنا بكل أنواع ما لا نعرف كيف نسميه. إذا إن أراد القائمون على الإنتاج الإعلامي والتلفزيوني في منطقتنا أن يستخدمونا بعبارة "الجمهور عايز كده" لنكون شماعة لتبرير خيبتهم في جذبنا، فليكن بعلمهم أننا نريد الكثير الكثير. وإن عجزوا فسنمحوهم بضغطة زر، وإن لم نجرؤ لأننا لا نجيد لغة أخرى، فأولادنا في طريقهم للتعلم وربما إن ورثوا عنا عادة إدمان المشاهدة فلن يعودوا لمشاهدتهم أبدا.. إذا هذا الزر السحري بقدر ما يؤمن لقنواتنا "هشة وغير هشة" جمهورا عريضا يجعلها مطمئنة إلى مستقبلها، خصوصا وأن جمهورنا بات مدمنا على المشاهدة، بقدر أيضا ما يؤمن لنفس الجمهور مسارب للخروج والتوجه إلى قنوات أخرى تعرض عليه "تشكيلة" مختلفة قد يجد لاحقا أنها تناسب ذوقه الذي سيتطور حكما بسبب كثرة العروض. وإن اشرأب أحدهم عائدا إلى نفس النغمة القديمة "المباح لغيرنا ليعرضوه غير مباح لنا، والمنافسة هنا ظالمة" أقول اطمئنوا فحزمة القنوات المبثوثة إلى السوق المغربي عبر "كنال بلوس" حذفت منها القنوات الإباحية.. وتصبحون على مسلسل جديد..