2013/05/29

التطـــرف الـــدينـــي أخطـــــر مــــا نبــــّهت إلـيــــه الــــدرامـا الســورية !
التطـــرف الـــدينـــي أخطـــــر مــــا نبــــّهت إلـيــــه الــــدرامـا الســورية !


عمر محمد جمعة – البعث

ليس انتقاصاً من قيمة أو تجربة أحد من المخرجين السوريين، الذين نقدّرهم ونحترمهم جميعاً، حين نقول إن المخرج المبدع نجدت أنزور ببصيرته النفّاذة وإحساسه العالي كان الأقرب إلى رصد هواجس المجتمع السوري خصوصاً والعربي عموماً، واستشراف مشكلاته وقراءتها قراءة عميقة وموضوعية، واختيار النصوص والسيناريوهات التي تعبّر عن حقيقة ما يجري وتنبش المظلم والمستور والمسكوت عنه، بل تقارب أحد أخطر أركان الثالوث المحرّم، ونقصد هنا الدين، ولاسيما أنه من المخرجين القلائل الذين اقتحموا هذا المضمار وانتبهوا مبكراً إلى مخاطر التطرف الديني والتشدّد والتكفير الذي ينتشر اليوم في البلدان العربية انتشار النار في الهشيم.

فأنزور الذي أحدث تحولاً فريداً على مستوى استثمار الأبعاد البصرية للصورة في الدراما التلفزيونية السورية، ووظّف كثيراً من الممكنات الفنية الناجحة في مجمل المسلسلات التي أخرجها، وعُرف بجرأته ومشاكسته وتمرّده ورفضه للقوالب والأفكار الجاهزة التي يناور بعض الكتّاب والمخرجين في تدوير زواياها، تبنّى مبكراً وعلى نحو مغاير أعمالاً عدّة، عاينت التطرف الديني وأثارت جدلاً كبيراً قبيل وبعد عرضها، كان من أبرزها "الحور العين" و"سقف العالم" و"ما ملكت أيمانكم".

>  ولئن كنّا سنقفز عن "سقف العالم" الذي كان ردّاً بليغاً على تطرف الآخر الغربي في إساءته للرسول الكريم محمد (ص) من خلال الرسوم الكاريكاتورية الساخرة، فإن الضرورة تقتضي أن نستذكر ما عرض له مسلسلا "الحور العين" و"ما ملكت أيمانكم" من صور هذا التطرف البغيض الذي يسيء للإسلام الحقيقي، لنقيسه على ما يجري اليوم عربياً من قتل وذبح وتنكيل وقهر واستباحة للمحرمات وتحليل لما نهى الله عنه تحت ستار الدين!!.

ونجزم أن ما جعل تجربة نجدت أنزور من العلامات النافرة في تاريخ الدراما السورية، هو امتلاكه لرؤية تتكامل مع كل عمل جديد لتصبح مشروعاً كبيراً تحتاجه الدراما العربية وليس الدراما السورية وحسب، إذ نؤمن أن الفساد والمخدرات والانحلال الأخلاقي والواقع الاجتماعي والمعرفي المزري للشباب العربي وهشاشة البنية النفسية للأسرة العربية عموماً والعلاقات الإنسانية الملتبسة والتربية المشوّهة وتبجيل واستعادة الرموز والشخصيات التاريخية، كلّها موضوعات مهمّة وخطرة، غير أننا أشدّ إيماناً بأن الأخطر من كل ذلك هو التطرف الديني الذي يعصف بنا حالياً ويفتك بما تبقى من قيمنا، وصدّرته لنا الغرف السرية ودوائر الاستخبارات الغربية ومراكز الدراسات والفلسفة المتطرفة التي يقوم على برامجها عتاة المفكرين والمنظّرين الصهاينة، ومثالهم برنارد هنري ليفي، بهدف إشاعة اليأس والإحباط والعزلة والنقمة على المنظومات القيمية السامية وتدميرها وتفريغ روح الشباب العربي من الإبداع والطموح والإحساس بقيمة الذات وأهمية الوجود والإخلاص للقضايا التي صارت تفتتنا بدلاً من أن توحّدنا، وصولاً إلى إحياء العصبوية والنظرة الضيّقة وزرع الريبة والشك في المسلّمات والمقدّسات وشيطنة الإسلام والدين الحنيف والطعن بفضائله ووصمه بالإرهاب والنزوع إلى قتل الآخر والرغبة في إراقة دمائه!!.

لقد تصدّى نجدت أنزور بجرأة وشجاعة لهذا الوافد الجديد إلى قاموسنا السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي، رغم الحملات الشديدة التي تعرّض لها ، إذ أن المغامرة ودخول هذا المضمار الشائك تستدعي أن يكون المبدع حاذقاً وحذراً في الوقت ذاته، فالشعرة التي تفصل بين الحق والباطل، وبين الدين والمتمظهرين به زوراً، يمكن أن تتحوّل بقليل من التحريض إلى قشّة تقصم ظهر المشروع برمّته، بيد أن إرادة أنزور كانت أقوى من أي اعتقاد خاطئ وتأويل مغلوط، حيث واجه الحجّة بالحجّة والقرينة بالقرينة، وهو العارف أننا لا يمكن أن نعالج أي مشكلة أو مرض مزمن دون أن نشرّحه ونفكّكه ونشخّصه بتفصيلاته الدقيقة.

فـ"الحور العين" يختزل حكاية العائلات العربية المسلمة من المحيط إلى الخليج بمجمّع سكني صغير نلمس من خلاله الحياة الاجتماعية وطبيعة العلاقات الناشئة بين هذه العائلات المقيمة في السعودية، وفهم كل منها للدين وتأثيره على الواقع، وكيف يغدو عند البعض تطرفاً يكفّر الآخر ويفتي بإهدار دمه، ويسلّط الضوء على التفجير الإرهابي الذي استهدف المجمّع عبر استفزاز ذاكرة "فرح" إحدى الشخصيات الناجية من التفجير لتروي ماحدث، كما يختصر ما آل إليه وعي الشباب المغرّر بهم حيث يقول أحدهم: "جعلوني أرى نفسي في الجنة مع الاثنتين والسبعين حورية اللواتي سأتزوج بهن"!.. ليأتي بعده مسلسل "ما ملكت أيمانكم" الذي يصوّر الصراع الذي تعيشه شخصيات العمل بين محاور الدين والاعتقاد والتيار المتمرّد والقيم الثقافية والعادات الاجتماعية والرغبة الجسدية المكبوتة تحت تأثير الدين والقيم الاجتماعية. فـ"توفيق" مثلاً الشاب المتطرّف المتشدّد الذي نشأ في بيئة متزمتة تجعل منه متعصّباً، يعاني حالةً عميقة من التناقض مع ذاته، بين ما يعيشه من رغبات على الصعيد الشخصي، وما يفرضه على المحيطين به، حتى يصل الأمر به إلى تأسيس خلية إرهابية، ينضمّ إليها العديد من الشباب الذين يتبنون الأفكار ذاتها، ويحرّضهم أميرهم "توفيق" على الذهاب للجهاد في العراق وأفغانستان، لينتهي به المطاف إلى محاولة القيام بعمليات تفجيرية في دمشق. إن هذا الاستشراف المبكر للمخرج نجدت أنزور في هذين العملين، فضلاً عن أعماله الأخرى، كان عاملاً من عوامل التنبيه إلى ما يخطّط لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، وبإسقاط بسيط على واقع ما يجري اليوم في سورية والوطن العربي ومقارنته بالأحداث والشخصيات التي قدّمها في أعماله سنرى أن الفن الحقيقي هو الذي يقوم على التنبؤ بالمستقبل بناءً على معطيات وإرهاصات الحاضر، ولعلّ طرح قضية التطرف الديني وتبيين مخاطره فيما لو تفاقم، كان يستلزم أن تقارب الدراما السورية أكثر مثل هذه الموضوعات وألا تنأى بنفسها عما يمكن أن يكون بركاناً إذا انفجر فسيأخذ في طريقه ويحرق كل شيء!!.