2012/07/07
سامر محمد إسماعيل – تشرين
غريب فعلاً إصرار الفضائية السورية على تقديم برنامج «البلد بلدك» منذ سنوات، والذي يعود اليوم مقدمه الزميل يوسف الأشهب للقاء المغتربين السوريين،
بعد أن كان «يُتحفنا» بحلقات منقولة مباشرةً من أهم القلاع والمعالم الأثرية السورية؛ قبل سنة ونصف كان مُعدّ ومقدّم «البلد بلدك» يطارد السياح بكاميرته في بادية تدمر وقلاع الحصن ومعلولا وحلب، متنقلاً معهم من قلعة إلى قلعة، ومن دير إلى دير.. كانت أسئلة الأشهب لضيوفه من الفرنسيين والطليان والألمان وسواهم تصب جميعها في رأيهم في سورية، شعباً وبلداً، وحفاوة الاستقبال الذي قوبلوا منذ هبوطهم من سلم الطائرة، والأمن والأمان الذي شعروا به منذ قدومهم إلى صالة مطار دمشق الدولي. كان ذلك بالطبع مفهوماً ومعقولاً ضمن برنامج يروّج للسياحة تحت أي عنوان، بل ذهبنا أبعد من ذلك مع الأشهب الذي يتقن أكثر من أربع لغات، مخاطباً ضيفه بعبارة: «تفضل يا سيدي..» بالطبع، لم نكن فرحين بما يكفي لرؤية الأجانب يطوفون خيام الصحراء السورية معززين مكرّمين في خيمة وسط تدمر والكثير من أبناء البلد يفكرون عشرات المرات قبل الذهاب إلى البحر لقضاء أيام من عطلة الصيف هناك، فعنوان برنامج الأشهب لا يعني أبناء البلد، ولم يهتم يوماً بانعدام السياحة الداخلية في ربوعه، بل كرّس هذا البرنامج فكرة عجيبة عن سورية والسوريين لسنوات، حينها كانت السائحات الشقراوات يرقصن حول المناسف وعلى إيقاع السحجة البدوية، كن يعتقدن بأنهن في بارات باريس أو روما، إنما على الطريقة العربية! لتتحول دمشق القديمة ببيوتها الأثرية إلى فنادق ومطاعم لسياحها.. كان المطلوب هو هذه الفكرة التقليدية عن الإنسان السوري؛ «البدوي الأحمر» مُعد مناسف السمن البلدي الذي يرحب «بالزينات» في مضاربه المجهولة، كاسراً فناجين القهوة على أبواب محال السهر في أعقاب زواره، وذلك بعد عراضة شامية معتبرة لزفاف «السياح» إلى فنادق العاصمة ذات الخمس نجوم عبر معركة سيف وترس حامية الوطيس! كان مطلوباً دائماً من يصبُ القهوة المُرّة أمام كاميرا أحمد علي مخرج «البلد بلدك» لنشاهد أبناء العم «الأوروبيين» يرقصون اللامبادا على إيقاع مهباج الهيل العربي.. لم تكن سورية وقتها في أزمة خانقة كما هو الحال اليوم، كانت مترامية الأطراف ومفتوحة للجميع، آمنة ومتاحة وممكنة وفي متناول اليد.. لقد ظل «البلد بلدك» بعد شبه انقراض للسياح الأوروبيين إلى المواقع الأثرية يتدبر أمره بالمغتربين السوريين في الخارج، أجل لقد استضاف الأشهب في برنامجه خيرة المغتربين السوريين، فكان أبرزهم السيد فرج العيسى رئيس «الجمعية العربية الأمريكية لأجل سورية» ليكشف هذا الأخير أنه سيقوم مع أعضاء الجمعية وبالتعاون مع «النادي السوري الأمريكي» في ولاية كاليفورنيا بإحداث «فضائية تختص بجمهورها من الأمريكيين ذوي الأصول العربية، ولاسيما السوريين منهم بعد أن تم مؤخراً التضييق على بث قناة (الدنيا) في الولايات الأمريكية المتحدة ومنع بث فضائية (صوت الناس وصورة الحياة) على قمر (الهوت بيرد) وهناك تهديد بالمصير ذاته لكل من (الفضائية السورية) و(سورية دراما)، إذ ستنقل هذه القناة الجديدة وجهة نظر متوازنة عن الحدث السوري متقيدةً بكل بنود القانون الأمريكي لوسائل الإعلام هناك». مبادرة مهمة يقوم بها الاشهب للتواصل مع الجاليات السورية في الغرب الأوروبي والأمريكي وروسيا والصين وسواهم، ولاسيما بعد التهديد الجائر من مجلس الجامعة العربية بإغلاق بث القنوات السورية من على قمري نايل سات وعرب سات، لكن السؤال الذي يلح الآن أكثر من غيره على فقرات «البلد بلدُك» هو ليس هذا الافتتان بزيارة «الرجل الأبيض» إلى مضارب بادية الشام وربوع حلب ودمشق، وأهمية رأي السائح الأجنبي في سورية، البلد التي يعود تاريخ حضارتها إلى أكثر من سبعة آلاف عام قبل الميلاد، بل هو عدم تطرق البرنامج -ولو عبر تقرير إخباري مقتضب- إلى الآثار السورية التي تُنهب يومياً من قبل المجموعات المسلحة والمافيات الدولية للتنقيب السري، ولاسيما أن المواقع الأثرية المستهدفة كانت على مدى سنوات مقصداً لكاميرا «البلد بلدُك». كان هذا مفيد طبعاً لو أن «الأشهب» تذكر حسب بيان مديرية الآثار والمتاحف الأخير في هذا الصدد أنه «في مقدمة الأماكن التي تعرضت للأذى كانت مواقع التراث العالمي السورية التي تشمل مدن دمشق وحلب وبصرى القديمة وقلعتي الحصن وصلاح الدين وموقعي تدمر والقرى الاثرية القديمة في شمال سورية (المدن المنسية) إضافة لتعرض منطقة (اللجاة) الممتدة بين محافظتي درعا والسويداء الى تنقيب سري وتخريب وتدمير للمشهد الثقافي الذي يعد متحفاً في الهواء الطلق للكتابات الصفائية». لكن «يا سيدي» يبدو أن الأشهب ذهب نحو خيارات أخرى، جميعها لم تعرف أن الناس في سورية أيضاً يريدون الذهاب لرؤية قلعة حلب والمدن المنسية وسواها، ويحلمون ككل أهل الأرض برؤية مهرجان بصرى الدولي مستقبلاً فرقة الرقة للفنون الشعبية على مسرحه الحجري الأقدم في العالم.
المشكلة الجوهرية في برنامج «البلد بلدك» هي حفاظه على طابعه السياحي من دون الثقافي، فالجميع يعرف أن قيمة المواقع الأثرية السورية ليست في آراء سياحها عنها، بل بما تكتنزه هذه الآثار من حقب حضارية متعاقبة شكلت الشخصية الوطنية لبلد بأكمله، شخصية ليست للبازارات السياحية بقدر ما هي أنماط عيش تم إخضاعها لرعي سياحي جائر صادر جزءاً كبيراً من هويتها الحضارية.. ولعل المثال الأوضح على ضحايا هذا الرعي السياحي الجائر هو مدينة دمشق القديمة التي تحول أكثر من 65 في المئة من محاورها الثلاثة إلى فنادق ومطاعم، ما أدى لاختفاء أنماط عيش كاملة من تلك المدينة، ليتم تكريس ثقافة المطعم بدلاً من ثقافة البيت، وما يكتنف هذا البيت من منظومة قيمية وثقافية غاية في العراقة.. طبعاً ليست بيوت «باب الحارة» مسلسل البيئة الشهير، بل ثقافة جمالية عمادها لوحات هائلة من الزجاج المعشّق والأرابيسك والعجمي والنوافير وحدائق الورود والعائلة الشامية، ثقافة تبدو اليوم في مهب الريح على مرمى أدخنة النراجيل وأسياخ الشاورما..ثقافة الأكل وارتضاء خاطر السائح الكريم التي رسخها «البلد بلدك» كرمى لسواد عيون الأجانب، فيما أهل البلد أصبحوا فرقاً من ضاربي السيف والترس، بعد أن تحوّل السلاملك إلى خدملك، وتمت تصفية الجمال في حرملك السياحة ورعايتها.