2012/07/04
مارلين سلوم – دار الخليج
لحظة صمت . الشريط يعود إلى الوراء . إلى الوراء أكثر من المعتاد، ليصل إلى زمن الصمت المعبر والضحك بالإيحاء والفهم بالإشارة . يتوقف عند تلك المحطة الخالية من الألوان إلا من المتناقضَين “الأبيض والأسود” . يعرف أن للماضي بريقاً آخر لم يبهت بعد، ولن يموت أبداً . يسرق منه فكرة ويمضي سريعاً إلى السجادة الحمراء . يعرف أن الرهان صعب، ورغم ذلك يقرر أن يراهن ب “الفنان” الصامت ليحصد أصوات وتصفيق الجمهور ولجان تحكيم كل المهرجانات .
هكذا عاد الفيلم الفرنسي من غفوة طويلة ليمتطي صهوة المهرجانات العالمية ويصل إلى آخرها محملاً بكمّ من الجوائز، ويزيدها إبهاراً بفوزه “الخماسي” بجوائز عن فئات متنوعة في “الأوسكار” . كيف تمكن من تسجيل قفزة كبيرة بعدما يئست السينما الفرنسية من تحقيقها وأصبحت كالحلم البعيد المنال إن لم يكن مستحيلاً بنظر البعض؟ هل لأنه بلا لون ولا كلام نجح في التركيز على الأداء والفكرة والإخراج؟ وهل هذا يعني أن اللغة الفرنسية كانت عائقاً يحول دون وصول الأفلام إلى مسامع أهل هوليوود؟
من المؤكد أن “الفنان” حمل الكثير من الإبداع ومن روح فريقه كي يستحق أن يسجل هذا النصر في تاريخ السينما الفرنسية وفي سجل “الأوسكار”، ويكفي أنه قرر في زمن الأبعاد الثلاثية والمؤثرات الصوتية والتقنيات السينمائية العالية، أن ينزع عنه كل “الفذلكات” ويعود إلى زمن الأبيض والأسود ليقدم فيلماً صامتاً جميلاً بسيطاً . أليس هكذا أصبح شارلي شابلن أب السينما وأشهر مؤسسيها؟ لكن للأسف هذه الميزة الفريدة في فيلم معاصر والتي لا يتوقعها أي منا، بقيت دون إدراك قيمتها لدى بعض مسوقي الأفلام وأصحاب الصالات، فلم يقدروا قيمة هذا العمل ولم يحسنوا اختيار توقيت عرضه في الإمارات، لنفاجأ بسؤالنا عنه أنهم عرضوه قبل أسابيع ولمدة أسبوع واحد ورفعوه من الصالات ب “صمت” دون دعاية كافية، بينما وجدوا في وفاة المغنية ويتني هيوستن فرصة لإعادة عرض أشهر أفلامها “بودي غارد” في الصالات كما فعلت الفضائيات، لأنه سيجذب الجمهور أكثر!
يمكننا القول إن “الأوسكار” حمل الكثير من المفاجآت هذا العام، وكأنه قرر أن يركب موجة التغيير هو أيضاً وينفض عنه رتابة الترشيحات المعروفة والمواصفات التقليدية و”السياسية” التي كان يفرضها كي يسمح للسينمائيين من حمل هذا التمثال الذهبي بين أيديهم . تغيرت لهجته ورضي هذه المرة أن يعتلي مسرحه فنانون من مختلف الجنسيات، وأن يتنقل “رَجُلُه الذهبي” ما بين فرنسا وإيران وباكستان، إلى جانب طبعاً الأفلام الأخرى التي استحقت ما نالته من جوائز . وإذا كان الفيلم الفرنسي “الفنان” استحق جوائز عن “صمته”، فإن الفيلم الإيراني “انفصال” عرف كيف ينتزع جائزة أفضل فيلم أجنبي بفضل جرأته وصوته العالي، فاعتلى مخرجه أصغر فرهادي الخشبة ليقدم الجائزة إلى شعبه الذي يحترم كل الثقافات بعيداً عن السياسة كما قال . ورغم أن الفيلم يحكي عن انفصال نادر وياسمين، وهي حكاية تبدو أسرية اجتماعية، فإنه يرمي إلى أحوال بلاده الداخلية والصراع بين الطبقات وبين التيارين المنفتح والمتشدّد . ربما خلط الأوراق بين الاجتماعية والسياسية أهل فرهادي إلى كسب ود الجمهور ولجان التحكيم، ففاز ب “الدب الذهبي” من مهرجان برلين السينمائي، وبعده “السيزار” قبل أن يصل إلى الأوسكار . ولا بد أن نقرأ من هذه الجوائز مدى ذكاء المخرج وفهمه اللغة السينمائية الحالية التي لا بد أن تهرب وتواجه في آن، تتخفى وراء قصص الحب والعواطف والتشتت العائلي لتكشف حقائق سياسية وصراعات عقدية من الصعب مواجهتها بخطاب مباشر .
أما المخرجة الباكستانية شارمين عبيد تشينوي ففازت بأوسكار أفضل فيلم وثائقي عن ضحايا الهجمات بالأحماض، وقد كشفت لأول مرة القناع عما تتعرض له النساء في بلدها .
أليس صحيحاً أن “الأوسكار” ومثله سائر المهرجانات السينمائية العالمية، قررت هذا العام أن تحاكي الواقع وتشجع أصحاب الآراء المختلفة والمواهب المميزة، فتجرأت بدورها على التصفيق ل”الآخر” الذي لم يكن حتى سنوات قليلة مضت يحلم بأكثر من الوقوف على السجادة الحمراء والمشاركة على “هوامش” المهرجانات؟ وهي بذلك تجاري النزعة السينمائية في العالم نحو الأفلام الواقعية، ومنها مثلاً الفيلم الذي أخرجته أنجلينا جولي “بلاد الدم والعسل”، الذي لاقى تقديراً لإنسانيته وقضيته أياً كان مستواه الفني .
لذا نتأمل أن تكون اللغة السينمائية الجديدة سبيلاً للانفتاح على الثقافات ومحاولة لفهم الآخر ومعاناته وإبداعه وفكره . ولم لا تكون منبراً للنقاش الواعي يتبادل فيه الكل وجهات النظر، طالما أن السياسة تخفق دائماً في محاكاة الشعوب وتفهم أفكارهم ومتطلباتهم؟ وطالما أن الأفلام تحكي قصصاً من الواقع دون أطماع بمناصب، وتضع نصب أعينها أولاً رسالة إنسانية مهمة تتخاذل السياسة عن حملها في ملفاتها ومنحها الأولوية كي ترتاح شعوبها، لم لا ينصب الاهتمام على تكثيف إنتاج الأفلام الجيدة والتنافس على الأفضل والأجرأ “بمعنى الجرأة الفكرية لا الجسدية”؟ على الأقل كي يبقى هناك أمل في تحدي العنصرية “الهوليوودية” التي تحكّم فيها مطولاً اللوبي الصهيوني، ومازال .