2012/07/04
خاص بوسطة - علي وجيه أن تقرر مخرجتان أوروبيتان (من بلجيكا واسكتلندا) صنع فيلم تسجيلي عن القضية السورية الأولى، فهذا بحد ذاته أمر إيجابي يدفعنا للتواطؤ مع العمل سلفاً، دون إغفال النقطة الأهم التي نشدد عليها دائماً في أفلام القضايا الوطنية والقومية، وهي أن يكون الفيلم نفسه مشرّفاً لقضيته من جميع النواحي الفنية، فالنوايا الحسنة لوحدها لم تعد تنفع في عالم السينما، والفيلم القاصر فنياً لا يعني شيئاً مهما كان نبل القضية التي يتبنّاها. وهنا يمكن أن نذكر عشرات الأفلام السورية وغير السورية التي تناولت القضية الفلسطينية بشكل ساذج ومفرط في المبالغة والهشاشة، ما أثّر على القضية نفسها رغم إخلاص صنّاع تلك الأفلام لها. هكذا، يفتتح الـ Dox Box دورته الثالثة بالفيلم الهولندي «اصرخ» للمخرجتين سابين لوبّه باكر وإستر غولد (العرض العالمي الأول للفيلم)، والذي يرصد علاقة أهل الجولان المحتل بوطنهم الأم من خلال الشابين عزت وبيان، اللذين تتاح لهما فرصة إكمال دراستهما في دمشق بعد المرحلة الثانوية، فيتجه عزت إلى قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، ويدخل بيان كلية طب الأسنان في جامعة دمشق. يبدأ الفيلم بمشاهد الصراخ المتبادل عند الحدود بين الطرف السوري وبلدة مجدل شمس المحتلة، وهو المشهد الكلاسيكي الذي حفظه السوريون عن ظهر قلب من التقارير الإخبارية، ولكن يبدو أن المخرجتين وجدتا فيه مدخلاً مناسباً للولوج إلى مجدل شمس من الداخل، وتعريفنا على بطلي الفيلم مع عائلة كل منهما وعالمه الخاص. اللفتة الأهم في البداية كانت في التشديد على رفض وصف «سورية والجولان» واستبداله بـ «دمشق والجولان»، فكل هذه الأرض هي سورية رغم وجود الاحتلال. وكان من المبهج أن يصدر هذا التصويب الفكري الهام عن شابين يحلمان ككل شباب العالم بالحياة الحلوة والفتيات الجميلات والسهرات الصاخبة. من هنا، يحلم عزت وبيان بعيشة الحرية في الوطن، وتنتقل الكاميرا من مجدل شمس إلى دمشق دون إظهار مرحلة عبور الحدود لتعذّر التصوير هناك، لتبدأ التباينات الفكرية بين الصديقين. عزت تعجبه الحياة الجديدة المختلفة عن هدوء البلدة وضجرها، فيخطط لإكمال حياته في دمشق بعد انتهاء الدراسة، ما يعني مصيراً مماثلاً للعديد من شباب الجولان الذين يقررون البقاء في سورية بعد إتمام الدراسة، وبالتالي عدم إمكانية العودة مجدداً إلى الأهل. في حين يلاقي بيان صعوبة في التأقلم مع المجتمع الجديد، ومتشوقاً ليوم العودة السنوية إلى البلدة في الصيف. هذا التباين بين الصديقين لا يعني أن أحدهما مخلص للقضية أكثر من الآخر، فالجولانيون متمسكون بانتمائهم ووطنهم، ولا يبدون أدنى استعداد للمهادنة. هذا أمر بديهي وغير قابل للجدل. لا يوجد جنسية على بطاقاتهم الرسمية لأنهم رفضوا الجنسية الإسرائيلية. سجلهم في المعتقلات الإسرائيلية مشرّف، وهو خير دليل على شراسة مقاومتهم للاحتلال. في الوقت نفسه، من حقهم أن يحبّوا ويسهروا ويرقصوا ويتمتعوا بالحياة. وهذا ما أتاحته الحياة الجديدة في دمشق لكل من عزت وبيان. نجح الفيلم في التقاط روح الطرافة العفوية التي يتمتع بها الجولانيون. ها هي المخرجة سابين تسأل عزت: «صرت رجال البيت هلأ؟» فيجيب تلقائياً: «أنا رجال بالبيت وبكل محل». الدعابة والابتسامة وجه آخر للمقاومة، وعند الجولانيين الفرح ممتزج بالحزن دائماً، فهم يضحكون بحزن ويحزنون بابتسامة ساخرة. دمشق كذلك ظهرت بصورة غير سياحية كما اعتاد الأجانب تصويرها، بل رأينا تفصيلات حقيقية صغيرة ذات دلالات معبّرة عمّا يريده الفيلم تماماً. لافتة Pub في الشارع. مشهد الديسكو. صورة الرئيس بشار الأسد مع السيد حسن نصر الله في المطعم. وغيرها من الإشارات التي حاولت القول إن لدمشق المقاومة وجه آخر. وجه مودرن يسمح للشباب المتحرر بالتواجد والتعبير عن نفسه طالما أن الثوابت والبديهيات مصانة ومحصنة. وبالتالي كانت المحصلة أن الخط التوثيقي يلتقي مع الخط الدرامي في بعض المشاهد، ولعلّ أوضحها هو المشهد الأخير الذي تعود فيه الكاميرا إلى ربوع مجدل شمس المحتلة. الفيلم الذي عبّر عن رؤية خارجية للواقع السوري، أغفل بعض الأسئلة التي كان يُفتَرض أن يطرحها بشكل منطقي. ما هي ظروف هؤلاء الطلاب المادية؟ كيف يؤمّنون احتياجاتهم التي قد تكون طارئة وهم المنقطعون عن أهلهم طوال العام الدراسي؟ هل تحاول الدولة مساعدتهم في هذا الشأن؟ ما هي مطالبهم العملية على مستوى الحياة اليومية؟ كلها تساؤلات مشروعة تفرض نفسها عند التطرق لقضية وطنية حساسة كهذه. لذلك يمكن القول في النهاية إن فيلم "اصرخ" كان سطحياً نوعاً ما من الناحية العملية، ولكنه مؤثر وموفّق على المستويين الإنساني والوطني، فهو يتوخّى الحقيقة وينسجم مع وجهة النظر السورية الرسمية والشعبية. من الجولان تأتي ضحكة وتنطلق صرخة. صرخة إنسان قبل أن تكون صرخة قضية بحاجة لمزيد من الحراك الوطني على كافة المستويات الفنية والإعلامية. بطاقة الفيلم: الاسم: "اصرخ". إخراج: سابين لوبّه باكر وإستر غولد. كاميرا: غريغور ميرمان. مونتاج: باربرا هين. صوت: تيم فان بيبّين. إنتاج: بيتر فان هيستي. البلد: هولندا. السنة: 2009. المدة: 54 دقيقة. العرض العالمي الأول. استغرق إنجازه 4 سنوات منها سنة كاملة في التصوير. يعرض بعد أسبوعين في هولندا، ثم في لندن وعدد من المهرجانات، قبل أن ينتقل إلى شاشات التلفزيون.