2012/07/04
اسامه عسل - البيان
يعتبر الفيلم التركي (اسأل قلبك) الذي عرض ضمن المسابقة الرسمية الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ43، من الأعمال التي تثير كثيرا من الجدل، حيث يطرح العديد من التساؤلات التي قد نتفق أو نختلف حول بعضها.
وإذا كان العقل والعقيدة الدينية قد يقفان عائقا أمام تقبل فكرة قصة حب شائكة بين مسلمة ومسيحي، فإن كاتب السيناريو ومخرج الفيلم يوسف كورتشنلي اختارا «حديث القلوب» في شكل ومحتوى رومانسي وعنوان له دلالته، ليواجه الحسابات الواقعية والعقلية المعقدة في ظل أزمة يواجهها عشاق حقيقيون عبر اختلاف الأزمنة والأمكنة، ومحنة الصدام مع المجتمع وحتمية قرار الاختيار بين العاطفة وكل ما يحيط بها من ظروف تسعى لوأد تلك المشاعر أمام قيم هذه المجتمعات.
وفي تركيبة سحرية قريبة من نمط المسلسلات التركية يستدرجنا الفيلم عبر أفكاره النظرية إلي عالمه بصورة مدهشة، ويضعنا في قلب حكايته وشخوصه من دون أن يستخدم أي أساليب مباشرة أو حوارات خطابية.
ولتمرير إشكالية الموضوع يبتعد العمل عن الزمن الحالي ويسقط ملابسات القضية من خلال (صوت الراوي) في بداية الفيلم إلي فترة النصف الثاني من القرن التاسع في زمن الدولة العثمانية، حيث كان قانون فرض الجزية على أشده ويتعرض المسيحيون إلى التمييز العنصري، بل ويفرض عليهم إجباريا من حين لآخر التخلي عن عقيدتهم، لذلك كانوا يخفون دينهم الحقيقي ويتعايشون كمسلمين، يذهبون إلى الجامع بانتظام ويعيشون كل الطقوس والتفاصيل المتعلقة بالديانة الإسلامية، ويخفون كذلك أماكن صلاتهم المسيحية في دهاليز بيوتهم بعيدا عن كل العيون المتلصصة التي يمكن أن تفضحهم وتتسبب في تعرضهم للقتل.
وفي قلب هذا العالم وبالتحديد في شرق البلاد المطلة على البحر الأسود وفي قرية جبلية تمتلك الطبيعة الساحرة البكر، بما تمثله من بساطة وجمال وخشونة ومناظر خلابة استخدمها مدير التصوير بحرص شديد من أجل التمهيد لموقع سيشهد قصة حب أسطورية.
وعبر لقطات سينمائية موحية ومن خلال فتى وفتاة يعيشان «قصة حب»، الفتاة هي «أسما» التي تنتمي لأسرة مسلمة والفتى هو «مصطفى» ابن الجيران الذي تعشقه وتنتظر الوقت الذي يتزوجان فيه، يوظف المخرج طبيعة المكان ومفرداته في صنع أجواء الفيلم الدرامية والنفسية والتعبيرية، كما يستغل المرتفعات والخلفيات في رسم حركة الممثلين بتفاصيلها وأبعادها، لكن مصطفى الذي يبدو طوال الوقت أنه يخفي أمرا ما تكشفه الأحداث، وهو كونه من أسرة مسيحية تنتمي للكنيسة الأرثذوكسية لكنهم يمثلون أنهم مسلمون أمام أهل القرية نتيجة للظلم الذي كان يتعرض له المسيحيون في تلك الفترة، ويؤكد إسلامهم ذهاب جده المسيحي نيابة عن صديق مسلم له توفي وحمله مسؤولية أن يحج مكانه، فيذهب بالفعل إلى مكة ويؤدي طقوس الحج ليعود حاملا لقب (الحاج سليمان).
وبنفس أسلوب الفيلم في كشفه الهادئ لتفاصيله تظل الصورة هي وسيلة المخرج في التعبير، مستغلا عناصر الموسيقى والأغاني الفلكلورية الجميلة في دفع الأحداث ورسم العلاقة بين أسما ومصطفى، وفي مشهد يصعد فيه الفتى إلى الفتاة فوق الشجرة وهي تجني الثمار تشكل فروع الشجرة والأوراق المتشابكة حواجز بينهما، تتناسب مع الموقف المتأزم الذي ينتظر الحبيبان. ويحمل الفيلم كذلك في بنائه الدرامي جزءا أسطوريا وقصة حب تحاكي روميو وجولييت، فإذا كان العشيقان الشهيران فرقهما خلاف الأهل والصراع على السلطة، فإن أسما ومصطفى يفرقهما الدين.ومن أجمل مشاهد الفيلم في تقطيع اللقطات والتصوير، اللحظة التي قررت فيها جدة مصطفى الكشف عن هويتهم وديانتهم الحقيقية بعد وفاة زوجها (الحاج سليمان) وإقامة مراسم الدفن على الطريقة الإسلامية، وتكون هي بالداخل تصلي أمام تمثال المسيح في المخبأ الخاص بإقامة شعائرهم الدينية، فتخرج أمام أهل القرية وتكشف الحقيقة غير مهتمة بما قد يلاقونه من مصير، لأن كل هدفها أن يدفن زوجها بمدافن المسيحيين، وهي النقطة التي حملت تحولا دراميا في الاحداث، وكشفت الكثير من التناقضات.
صاغ المخرج وكاتب السيناريو القصة شديدة التعقيد في بساطة ورقة، فالقرية مليئة بالنماذج الإنسانية المختلفة لنساء ورجال يقضون حياتهم في الزراعة واللعب بالعصا، وهناك الأخت «ماريا» التي تلتف حولها نساء القرية لتحكي لهن القصص ومن ضمنها تلك التي تشبه الأسطورة وترويها دائما وتلاقي اهتماما وإنصاتا عند الفتيات والنساء، حكاية شقيقتها التي أحبت فتى مسلما وعارضت الأسرتان هذا الزواج من منطلق ديني، فأحرقت الفتاة نفسها لتتحول إلى سحابة تحيط حبيبها الذي فرقهما الدين ويتحول الاثنان إلى سحابة.وتقول بطلة الأسطورة إنها غاضبة على المسلمين والمسيحيين على حد سواء وتحكم عليهم بعدم السلام والسعادة طول الوقت، لأنهما وقفا ضد سعادتها، وهو المصير نفسه الذي تختاره بطلة الفيلم والتي تحاول الهرب مع حبيبها رغم اكتشافها أنه على غير دينها وتحاول شقيقتها منعها، إلا أنها تترجاها باسم الحب.وبعد خروجها يمنعها ابن حاكم القرية والواقع بغرامها هو الآخر، وتكون الأخت ماريا بمثابة الشاهدة على القصة طوال تطور الأحداث، وكأن المخرج والمؤلف يؤكدان أن الأمر سيتكرر، وينتهي الفيلم النهاية المأسوية نفسها، حيث تختار «أسما» أن تحرق نفسها وتتحول إلى سحابة وكان هذا المشهد متكاملا من الناحية الفنية والبصرية سواء انفعالات الممثلين وحركتهم وزوايا الكاميرا واللحظة التي تحاول أسما أن تقنع مصطفىبأنها ستتزوج محمد ابن حاكم القرية، وتعيش في القصر، لأن قصة حبهما لا تجوز وهو يراقبها غير مصدق، وينقل بصرها بينه وبين أمه التي تحاول منعه هي الأخرى، لأن المجتمع لن يرحمهما ولا تتردد في أن تشعل النار في نفسها لتمنعه من الهرب مع أسما، ومحمد الذي يراقب المشهد ويقف منتظرا أن تعود إليه أسما بعد أن تخبر حبيبها بأنه لا يجوز لهما الهرب والزواج، ولكنها تفاجئ الجميع وتشعل النار في نفسها لكي تستطيع أن تحيط بحبيبها.
وهكذا تكتمل الحكاية لتصنع من قصة حب أسما ومصطفى أسطورة تتناقلها الأجيال، ولكن هل ستعي الأجيال ذلك؟ وهل سيكون مصطفى وأسما هما آخر ضحايا قصة حب حال دون اكتمالها أسباب لا يملكونها؟، هذا هو التساؤل الذي يضعه فيلم «اسأل قلبك» مع كلمة النهاية.