2012/07/04
محمد منصور – القدس العربي لا أدري من هو العبقري الذي وضع شعار احتفالية التلفزيون السوري بذكرى مرور نصف قرن على تأسيسه: (خمسون عاماً... ونستمر) فالتلفزيون السوري ليس مجلة ثقافية تقاوم نوائب الدهر وتراجع سوق القراءة كي تستمر، وهو ليس قناة تلفزيونية خاصة تعيش على عوائد الإعلان أو اشتراكات فك التشفير، وتخشى يوماً ما ألا تقدر على مواصلة المشوار... إنه تلفزيون دولة وجد ليبقى، وقد سبق للتلفزيون السوري أن استمر في ظل انفصام عرى الوحدة بين مصر وسورية وما تلا ذلك من انقلابات وحركات تغيير... ومن الطبيعي جداً أن يستمر اليوم في ظل نظام قوي ومستقر، لأن التلفزيونات باتت من مقومات حضور الدول وسيادتها... وعليه فاستمراره ليس معجزة ندعيها، ولا حالة استثنائية نكيد بها الأعادي، بل هو أمر اعتيادي ليس لأحد بطولة في صنعه... وإن كانت البطولة تكمن في التأسيس له في ذلك الزمن الصعب، ثم في تطويره في غير مرحلة من مراحل تاريخه، أرادت الإدارة الحالية للتلفزيون السوري الاحتفال به وإبرازه، فإذا بها تغرق في فوضى تضيع معها معايير التكريم، وألق استعادة ذلك التاريخ، والكثير من البهجة الاحتفالية التي كنا نأمل أن نعيش معها، حاملين كمشاهدين أو كمتابعين ذكريات شتى عن واحدة من أهم الوسائل الإعلامية التي شكلت ذاكرة السوريين في النصف قرن الأخيرة، وضبطت إيقاعات أيامهم! تظارف وفوضى وارتجال! الاحتفال الأول بعيد التلفزيون الخمسين، أقيم على حفلين الأول في سهرة الثالث والعشرين من تموز (يوليو)... وتم فيه تكريم خمسين إعلامياً وفناناً من العاملين في التلفزيون في مراحل مختلفة... وقد كان قوام الحفل، مسابقة عرضت فيها مواد تلفزيونية قديمة، وطرحت حولها أسئلة مختلفة... الفريقان المتسابقان، تم اختيارهما من حضور الحفل... ووضعت لجنة تضم الفنان دريد لحام والمخرج خلدون المالح والفنانة سلمى المصري. فكرة المسابقة قديمة، وقدمت في التلفزيون مراراً، لكن ما يعيبها ليس كونها غير مبتكرة، فقد تفي بالغرض في تسليط الضوء على نتف من تراث التلفزيون الثر... لكن ما يؤخذ عليها حالة الهرج والمرج والاستظراف التي سادت، ناهيك من أنها كشفت عن مستوى ثقافة بعض الإعلاميين العاملين في التلفزيون... فالمذيع محمد ذو الغنى عندما قدمت أغنية (سورية يا حبيبتي) اندفع بكل ثقة للقول للجنة: (هي ما بدها ثلاثة احتمالات... معروفة لأخوين فليفل) ثقة كانت محرجة حقاً في معرفة نسب أغنية ذائعة الصيت كتبها ولحنها الفنان اللبناني محمد سلمان وليس ملحني النشيد السوري!! الصور التي كانت تعرض في المسابقة كانت تتأخر أحياناً، فيسأل المذيع أمجد طعمة (أحد مقدمي الحفل) عن فحوى الصورة، في الوقت الذي تتصدر الشاشة صورة شعار الاحتفال بعيد التلفزيون الخمسين، فيجيب بعض الفنانين ساخرين: (معروفة... هي صورة التلفزيون)!! نترك المسابقة وما حفلت به... فتطالعنا حالة التكريم بهرج ومرج ليس مطلوباً أن يكون ذا وقع كوميدي بالتأكيد... وخصوصاً حين يخطئ السيد أمجد طعمة في نسب المسلسل الشهير (انتقام الزباء) إلى مخرجه غسان جبري، ويقول إنه لعلاء الدين كوكش، فيأتي المخرج كوكش، كي يستعير المايكروفون مصححاً بنزاهة وترفع... وتأتي مذيعة أخرى فتذكر مسلسل (حكاية حارة القصر) أثناء تقديم كاتبه عادل أبو شنب... باعتباره (حكاية حارة) أي حارة يا ترى؟! لا أحد ينتبه هذه المرة، رغم أن هذا الجهل يرتكب بحق أشهر مسلسلات التلفزيون، والسبب أن هناك ازدحاماً حدث على المنصة أثناء ذكر أسماء المكرمين... وكأن المطلوب الانتهاء سريعاً من هذه القائمة الطويلة المرهقة، من دون انتظار المكرمين (ومنهم من بلغ من العمر عتياً) كي يصلوا إلى المنصة أو يستلموا درع التكريم، أو يحيوا الناس... والنتيجة: أسماء لم يعرف الجمهور أصحابها، وخصوصاً أن معظمهم من الفنيين والعاملين وراء الكاميرا... الذين لا يعرف المشاهد أشكالهم! وكان لافتاً في ظل هذه الفوضى والعجلة، أن مقدمي الحفل الثلاثة، نسوا اسم المخرج هيثم حقي، الذي كان حاضراً، وكان اسمه مدرجاً في قائمة المكرمين، ولم تفلح محاولة المذيع اصطحاب مدير عام هيئة الإذاعة والتلفزيون المهندس معن حيدر، كي يكرما هيثم حقي وهو جالس على طاولته، في أن تمحو حالة الحرج التي حاول الجميع مداراتها بابتسامة... وبجرعة من المديح الزائد كنوع من تطييب الخاطر! اختيار بلا معيار! والحق أنه لا يمكن لأي مشاهد تابع هذا الحفل، أن يعرف ما هي معايير اختيار أسماء المكرمين.. وأية عدالة تجعل الزميل نضال زغبور مكرماً، والزميلة ماريا ديب منسية؟! وإذا أردنا أن نكرم رفيق السبيعي وياسين بقوش وجيانا عيد من الفنانين... فلم لا نكرم سائر الممثلين الذين عملوا في دراما التلفزيون... لماذا ننسى - مثلاً- السيدة ثناء دبسي التي عملت في أول مسلسل تلفزيوني أنتجه التلفزيون السوري (ساعي البريد) ولماذا ننسى بسام لطفي الذي عمل في أول عمل درامي يوقعه الرائد سليم قطايا وهو تمثيلية (الغريب)؟! ولماذا يتم فتح باب تكريم الممثلين (وهم كثر) إذا لم يكن بالمستطاع تكريم الجميع؟! من سيمحو المرارة من نفس زملاء عملوا مع هؤلاء في نفس الأعمال أو في نفس الفترة... وعاشوا ليروا اختلال المعايير وفوضى الاستثناءات؟! وهل يمكن أن ننسى ونحن نكرم إعلاميي التلفزيون أسماء: عواطف إسماعيل الحفار، وفاطمة خزندار، وباسمة زنبقة... والقائمة تطول، والذاكرة حافلة بأسماء من الظلم تجاهلها، ومن المؤسف استثناؤها، لأن هذه الأسماء والوجوه هي من شكلت ذاكرتنا، وهي من صاغت علاقتنا بالتلفزيون، ولماذا يتم تجاهل الأستاذ فؤاد بلاط وفي عهده أنشئت القناة الثانية... والأديب عبد النبي حجازي وفي عهده أنشئت القناة الفضائية... والدكتور فايز الصايغ وفي عهده افتتح العديد من المراكز التلفزيونية الجديدة؟! وإذا كان حفل التلفزيون الأول هو الحفل الشعبي الموجه لملايين السوريين الذي يفترض أن يتابعوا هذا الحدث السعيد في بيوتهم... فهل كان التلفزيون عاجزاً وهو يحتفل بعيد ميلاده الخمسين، أن يستقطب لهذه المناسبة المهمة مطرباً سورياً كبيراً من وزن صباح فخري أو ميادة حناوي أو أصالة نصري بما يعطي للحفل وهجاً غنائياً يليق بالتلفزيون المحتفى به الذي وصفه الزميل معن صالح في الأغنية التي ألفها ولحنها بأنه (أغلى من الوالد والولد)؟! الصعود على المسرح للوزراء فقط! تساؤلات عديدة بدا الحفل الثاني الذي وضع فكرته وأخرجه الفنان أيمن زيدان غير قادر على محوها... صحيح أن هذا الحفل كان أفضل فنياً من سابقه وأكثر انضباطاً بتقديم الزميلة عزة الشرع له، وأن معيار تكريم الأسماء العشرة فيه كان واضحاً ومنطقياً إلى حد بعيد... لكن طريقة التكريم بدت غريبة فعلاً... فلأول مرة لا يدعى المكرمون إلى الصعود إلى المسرح ويبقون في أسفل الصالة فيما توضع صورهم على المسرح... فهل من المعقول أن تأخذ الصورة مكانة أعلى من صاحبها الموجود في الصالة؟! وهل من اللائق أن يدعى وزيرا السياحة والثقافة (مع احترامنا الأكيد لهما) للصعود إلى المسرح أثناء تكريمهما باعتبارهما عملا في التلفزيون في فترة سابقة، في حين يحرم من هذا الحق المكرمون الكبار ومنهم أيضاً من شغل مناصب سياسية مهمة كالدكتور صباح قباني؟! ومنهم فنانون يحملون وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى كالفنان دريد لحام؟! وألم يكن من اللائق أن توجه تحية على الأقل لوزراء الإعلام السابقين الذين وجدوا في الصالة أمثال الدكتور محمد سلمان، والأستاذ عدنان عمران؟! وإذا كان مخرج الحفل قد وفق في التقاط شهادات حارة لبعض المواطنين الذين عاصروا بدايات التلفزيون، واستطاع معالجتها بصرياً بشكل أنيق، كما وفق في تقديم حل فني لكلمة الدكتور صباح قباني التي أعلنت ولادة التلفزيون السوري... فإن معالجة الجوانب الأخرى لم تأت بجديد، فقد جاء متأثراً بعروض ماهر الصليبي في افتتاح مهرجان السينما... وقدم لنا نفس الرقصة الغريبة التي باتت تصلح لكل زمان ومكان في رأي فنانينا... لشبان يرتدون البذلات الأنيقة والقبعات الغربية ويراقصون فتياتهم على وقع موسيقى إيقاعية لا علاقة لها بالحدث والمناسبة؟! لقد أراد القائمون على الحفل الثاني أن يقدموا في ختام الحفل، فيلماً قصيراً عن تاريخ التلفزيون، فبدا التعليق حافلا بالجمل الإنشائية، فقيراً بالمعلومات، قريباً في لغته من موضوعات التعبير المدرسية... وكان طريفاً أن المونتاج نقل التعبير المجازي إلى صور واقعية، فبدا الأمر مضحكاً للغاية... فهل القول مجازاً بأن التلفزيون ألقى مرساته، يستدعى أن نقدم صورة سفينة تلقي مرساتها؟! لقد جاء احتفال التلفزيون السوري بعيده الخمسين مخيباً للآمال بكل المقاييس... فقد قدم منظموه ومنفذوه حالة نموذجية عما يمكن أن يفضي إليه الارتجال وقلة المعرفة وفوضى المعايير، وغياب الرأي الاستشاري، الذي هو أهم من اجتهاد من دخلوا التلفزيون بالأمس القريب... ولم يعرفوا مفاصل تاريخه المضيء والمشرق وسير بُناته!