2013/05/29
حسن م. يوسف – الوطن السورية
منذ أن شرع التلفزيون العربي السوري بإعادة عرض الجزء الأول من مسلسل «إخوة التراب» قبل بضعة أيام، تصلني رسائل وإشارات من مختلف النوعيات والتوجهات؛ الموالون مغتبطون، بعضهم يشدون على يدي كما لو أنني قد جلبت لهم لتوي كأس العالم في كرة القدم! علماً أن حرارة بعض المكاتبات والمصافحات تفتر قليلاً عندما يلومونني على تأخير عرض المسلسل حتى الآن! أما المعارضون فينظرون إلي بشكل مائل مع لمعة عين ماكرة، كما لو أنهم قد ضبطوني لتوهم وأنا أقوم بفعل مشين.
لهؤلاء وأولئك، أجد أن النزاهة تقتضي أن أقول: عندما بدأت بكتابة مسلسل «إخوة التراب» كانت العلاقات مع تركيا عادية تماماً، ولكن مكر التاريخ جعل العرض الأول للمسلسل، بعد سنتين، يتصادف مع تردي العلاقات بين البلدين! يعلم من يعرفونني أنني أحاول، ما أمكنني ذلك، أن أتجنب الخوض في وحل السياسة اليومية لأنني معني بهموم الإنسان وقضاياه، وليس بشطارات من يتسلقون على تلك الهموم والقضايا. على كل حال أنا لا علاقة لي بتسويق أعمالي ولا بتوقيت عرضها، ولا أتدخل بهذه الأمور من قريب ولا من بعيد.
أعلم أن أبناء الماء العكر سيجدون في كلماتي السابقة فرصة للصيد، ولكي أقطع عليهم الطريق أود أن أشير دون مواربة إلى أنني أعتبر السيد يلماظ الوالي الجديد الذي عينته تركيا مؤخراً على شمالي سورية الخليفة الأول لجمال باشا السفاح. وأنا أحمله بصفته الاعتبارية هذه، مسؤولية دماء شهداء السادس من أيار. ولأصحاب النظرات المائلة أقول، باستقامة ووضوح: إنني أتفق كلياً مع العلامة جمال الدين الأفغاني إذ يقول: كل من يسهم في جعل الأقدام الغريبة تدوس أرض الوطن هو خائن للوطن!
عندما عرض «إخوة التراب» للمرة الأولى شكك أحد الفنانين من باب «الغيرة المهنية» بمصداقية المسلسل التاريخية، واتهمه بالإفراط في مشاهد العنف، لأن عقوبة الخازوق كانت قد ألغيت رسمياً في السلطنة العثمانية مع حل الإنكشارية وهذا صحيح. يومها أثبتت لذلك الفنان «الغيور» بالدليل القاطع مدى هشاشة طرحه، فإلغاء العقوبة رسمياً لا يعني إلغاءها فعلياً، وأحلته إلى الصفحة 69 من مذكرات الملك عبد اللـه «جد الملك الأردني الحالي» حيث يقول بالحرف: «وكانت الفظاعة من الجند التركي، بإحراق القرى وتقتيل الأبرياء السبب الأول في الانقلاب الأخير حيث قال الأمير: «ليس من هؤلاء خير للعرب»، ولقد عُرِضَتْ عليه أربع مرات جثث شويت على النار شَيَّاً، بأن تدخل أعمدة الخيام في أدبارهم حتى تخرج من أفواههم».
إن مشاهد العنف في مسلسل «إخوة التراب» ليست سوى مفردات فنية هدفها جعل هذا العمل المضاد للعنف أكثر إقناعاً! أما مشاهد العنف المريعة حقاً، والحقيقية حقاً، والجديرة بالاحتجاج حقاً، فهي ليست من صنع كاتب ولا مخرج ولا ممثلي «إخوة التراب»، بل من صنع أجداد الذين احتجوا عليها! ومن ينس تاريخه، فلابد أن يجد نفسه خارج التاريخ!
لست أزعم أن «إخوة التراب» يقدم كل حقائق الحقبة التاريخية التي يتصدى لها، فليس هناك في تاريخ الفن أي عمل يقدم «التاريخ» بشموليته ودقته! وكل الأعمال الفنية دون استثناء ليست سوى نظرات في التاريخ!
رغم ما سبق أؤكد لكم أنه لا توجد أي معلومة في «إخوة التراب» ليس لها سند تاريخي في الوثائق، إلا أنني لست مع تقديس الوثائق، لأنها تعبر عن وجهة نظر من كانوا يعرفون القراءة والكتابة فقط، أما الأميون فتبقى وجهة نظرهم مجهولة، وعلى الكاتب المخلص أن يتمثل في وجدانه معاناة النصف الصامت من المجتمع وأن يدمجها بما تقوله الوثائق، ثم يعبر عن ذلك كله بصدق. وهذا يفرض مسؤولية مضاعفة على صناع الدراما العربية، وعلى رأسهم الكاتب الدرامي، وخاصة أننا ما نزال، مع الأسف، نخوض معارك الماضي كل يوم، بدءاً من معركة الجمل وانتهاء بمعركة داحس والغبراء! إن غبار الماضي يملأ حاضرنا، لدرجة أنه يمنعنا أحياناً من التنفس. رغم ذلك، فنحن لا نراه بوضوح! ولا نعرف القوانين المحركة له! لهذا كله أتمنى على مشاهدي «إخوة التراب» أن يروه الآن كعمل فني يقارب الماضي بغية عدم التكرار فهو يوقظ أجنحة الأمة للقفز بواسطتها إلى المستقبل!