2012/07/04
محمد أمين – الوطن السورية
تستدعي الأمم تاريخها أحياناً لكي يعينها على مواجهة الأزمات وخاصة عندما تكون في حالة دفاع عن الذات. تفجر منابعه من جديد لكي يمدها بالقوة والقدرة على الثبات والتحدي
وتحاول استلهامه من خلال البحث عن نقاط القوة ومحطات المجد حيث لا أمة في الأرض لم تعش أيام رفعة. عندما اشتدت الخطوب على الروس في الحرب العالمية الثانية وبدأت دبابات هتلر تتوغل في أراضيهم استدعى ستالين دون تردد شخصية خالدة في الذاكرة الروسية عندما خاطب أبناء شعبه يستحثهم على الدفاع والصبر والمصابرة أمام العدو يا أحفاد كاترين العظيمة، كما يستدعي الإنكليز امرأة لا تقل رفعة وخلوداً وهي الملكة فكتوريا كلما أرادوا تذكير العالم بتاريخ الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس.
فما بالنا -نحن العرب- نستدعي تاريخنا في الأزمات والمحن لكي يشارك في تدمير راهننا وتشريد مستقبلنا. نحن أمة لم تستطع الخروج من مستنقعات التاريخ وما زالت تتخبط في أوحاله.
لا نلوذ بالتاريخ لكي يجمعنا أكثر بقدر ما نلوذ به لكي يفرقنا ويشتت شملنا.
عندما تتجمع غيوم الفتن في سمائنا نركض في اتجاهات متفرقة وكل واحد يحمل في ذهنه مذبحة جرت من ألف سنة أو معركة بغيضة جرت بين أجدادنا من ألف و200 سنة ونبدأ على الفور باستدعاء شريط ذكريات تاريخية أسود.
ذاك يقول في عام كذا جرت حرب أهلية بين المسلمين والمسيحيين وآخر يذكر متفاخراً بما يحفظ من التاريخ أنه تقاتل أهل المذهب الفلاني مع أهل المذهب العلتاني في عام كذا وكادا يفنيان بعضهما.
نحن أمة لن نعرف التقدم إلى مستقبلها ما دام تاريخها يكبلها ويمنعها من الحركة ما زال هذا التاريخ عبئاً ثقيلاً على الكواهل لم نستطع التخفف منه لأننا لم نؤسس الأجيال التي تلاحقت معرفياً وفكرياً على أسس سليمة ما زلنا نتعامل مع تاريخنا وكأن وقائعه قد حدثت منذ أيام، ما زلنا نتعامل وكأن معارك الجاهلية التي جرت بين القبائل ما زال يدور رحاها، ما زلنا ننظر لبعضنا وكأن معركة (الطف) جرت منذ خمس سنوات وليس منذ 1400 سنة. وكأن ما وصلنا من وقائع عن تلك الفترة لا يحتاج إلى غربلة بغربال المنطق. إذا كانت المعلومة في زمن (رويترز) و(الفرنسية) و(العربية) و(الجزيرة) والـ(BBC) و(الفضائية السورية) و(الإخبارية السورية) و(سانا) وسواها من وسائل الإعلام (المغرضة) وغير المغرضة تأتينا بروايات متعددة ومتناقضة إلى حد التناحر فكيف بها من ألف و400 سنة.
والملاحظة المؤلمة أن أكثر الناس استدعاء للتاريخ بجانبه السلبي هم المثقفون (ربما أغلب العامة لا يكاد يعرف شيئاً عن هذا التاريخ) وأغلب هؤلاء تراهم وهم يتكلمون يحاولون إخفاء أفاعي التاريخ ولكن لا يستطيعون لأن فحيحها الذي يخرج مع كلماتهم يفضحهم، لقد جرت في تاريخنا الطويل مذابح ومعارك كبرى وكدنا نفني بعضنا البعض لأن التاريخ كان حادينا فالعباسيون قتلوا ما قتلوا من الأمويين ومن القبائل الموالية لهم، والعرب اقتتلوا في الأندلس طويلاً عندما تفرقوا بين (قيس) و(يمن) حتى جاء عبد الرحمن الداخل، وهو الأموي المؤمن بمنطق الدولة فوحدهم بالمكيدة والدهاء حيناً وبالسيف أحايين أخرى فضلاً عن حروب القبائل في الجاهلية التي امتد بعضها أكثر من أربعين سنة لأسباب مضحكة في منطق ومعطيات هذه الأيام. أغلب المثقفين العرب وخاصة أولئك الذين يتفاخرون بتقدميتهم وفكرهم اليساري المتنور تراهم ينقلبون فجأة ويعودون إلى رجعيتهم ويقودون معهم نفراً غير قليل من العامة، يرمون كل ما قرؤوه وتعلموه خلف ظهورهم ويستدعون على الفور قناعات بالية وضيقة ويضعونها أمامهم ويتمترسون وراءها. ترى واحدهم يرغي ويزبد وكأن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ما زال محاصراً في داره في المدينة المنورة لا يكاد يجد شربة ماء ليشرب، أو كأن الحسين بن علي رضي الله عنهما ما زال طريحاً في صحراء كربلاء وكل من يتحرك هو شريك في قتله أو كأن «الخلافة» الفاطمية سقطت للتو.
لا بارك الله في أمة مثقفوها ما زالوا عبدة تاريخ وسدنة ماض يتحول إلى راهن في الأزمات وكأننا لم نفارق القرون الوسيطة.
إن التاريخ أداة وحدة إذا أردنا وأداة فرقة وتناحر إذا أردنا، في تاريخنا محطات فخار ورفعة ووحدة وهذه التي يجب أن نستدعيها في المحن وننسى ما عداها أو على الأقل نأخذ عبرة وعظة منها فقط. من يدقق في مفاصل التاريخ العربي يجد أن الانتصارات العظمى تحققت عندما توحدنا ووضعنا الجانب الأسود منه تحت أقدامنا، عندما فتح المسلمون الأوائل البلدان لم يكن تاريخ الجاهلية الأسود رفيقهم بل إنهم في المعارك المصيرية كانوا يتمايزون في القبائل لتثبت كل قبيلة قدرتها على مواجهة الأعداء لا على مواجهة أبناء العمومة.
عندما حققنا انتصار (حطين) كنا أمة واحدة مسيحيين ومسلمين (سنة وشيعة) يساند بعضنا بعضاً وفي تاريخنا المعاصر ما يؤكد هذه الحقيقة أيضاً وخاصة في الثورة العربية الكبرى عام 1916 وفي الثورة السورية عام 1925.
إن الأزمات هي الامتحان الحقيقي للأمم فكم من أمة تشظت وكم من أمة انشطرت عندما ألمَّت بها الخطوب وفي المقابل كم من أمة صمدت وثبتت وازدادت منعة عندما استندت إلى جدار تاريخها الصلب لا الرخو الذي يرد بها إلى مهاوى الانقسام والتشرذم.
لا ريب أننا أمام تركة تاريخية ثقيلة بعض الشيء تحتاج إلى جهود وجهود للتخلص منها فالأمر يتطلب وقتاً وصبراً فمن حق الأجيال أن تعرف تاريخها وعلينا واجب قطع ذاك الخيط الأسود الذي يربطنا بالتاريخ والذي ينتقل من يد إلى أخرى.
ويبدو أن الجيل الذي ولد بعد ثورة الاتصالات غير معني كثيراً بما قام به أجداده ويتطلع إلى غد خال من العقد التاريخية المخزية والدليل على ذلك الشعارات التي يرفعها في ميادين التغيير والتحرير في العواصم والمدن العربية فلنعنَ بهذا الجيل وندفعه باتجاهات أكثر رحابة وإشراقاً حتى إذا استدعانا في يوم من الأيام نكون عوناً له على الواجهة.