أمل عمران نجومية المسرح في زمن التلفزيون..نحتت جسدها على الخشبة بطاقة تعبيرية هائلة

سامر محمد إسماعيل – الوطن السورية

لم تفكر في طفولتها بالتمثيل فقد كان حلمها الأول أن تقطع بحر المانش سباحةً، إلا أن حادثاً أصاب تلك الصبية الصغيرة ونال من ركبتيها، وبعد دخولها إلى كلية الحقوق بدمشق اختلفت مع معظم الأساتذة الذين كانوا يريدونها مستمعة لا متحدثة فانسحبت من أروقة الجامعة تاركةً دراسة القانون.

الممثلة المسرحية التي تتمتع بطاقة فوق إنسانية جعلتها منذ دخولها المعهد العالي للفنون المسرحية 1985 أو قبل ذلك بقليل وجهاً لوجه مع رياضتها الأكثر قرباً؛ تحديداً عندما وقفت أمام لجنة القبول، عندها لم تُخف تلك الفتاة رغبتها قائلةً بملء صوتها: «لقد جئتُ لأعلمكم التمثيل». فاجأ ذلك أعضاء اللجنة الذين استغربوا كل هذه الجسارة التي واجهتهم بها، لتكون في سنوات دراستها الأكاديمية من أكثر طالبات التمثيل ضجراً بكليشيهات التمرين ورتابته؛ ولاسيما بعد رفضها الذاتي لتنميط أدوات التعبير لدى الممثل المسرحين فكان عرض «النورس» الذي قدمته في السنة الثالثة خطوة نحو كسر النمذجة: «أعطاني فواز الساجر كتباً باللغة الإنكليزية عن فن التمثيل وقال لي اقرئيها» ومع أنها لم تكن تتقن الإنكليزية آنذاك إلا أنها احتفظت بما أعطاها إياه أستاذها الراحل.

حكاية دراستها للتمثيل خبأتها أول الأمر عن أسرتها؛ فقد كانت تُصرّ دائماً على إكمال الطريق؛ مرةً بتحدي ركبتيها بالرقص والرياضة، ومرة أخرى بالصراخ في وجه أبيها الذي قال لأقربائه متهرباً: «إن أمل ستصبح مخرجة وليس ممثلة مسرح»..

لم تظهر أمل عمران كثيراً على شاشة التلفزيون، ليس لعدم حصولها على الفرص، بل لأنها لا تطمح أصلاً إلى هذا النوع من التمثيل، بل تتحدث دائماً عن المسرح بصفته فناً لا يمكن أن يكون لغير الصادقين والمؤمنين به. كان ذلك فاتحة الهطل بعد تخرجها من المعهد العالي للفنون المسرحية بعرض «الدب» لتشيخوف وبإشراف أستاذها مانويل جيجي عام 1989.

لم تشتغل عمران بعد تخرجها في التلفزيون رغم الكثير من العروض التي قُدمت لها، فهي لا تحب العمل في الدراما التلفزيونية بقدر محبتها للشغل على المنصة، مع أن الكثير من زملائها يظنون أنهم لا يستطيعون العيش من عملهم المسرحي، وأن التلفزيون هو المورد الوحيد للحياة، ويستغربون عندما تقول لهم إنها تعيش من المسرح.

هناك مسرحيات لا يمكن نسيانها لهذه الممثلة كتجربتها في «تقاسيم على العنبر-1994» مع المخرج العراقي جواد الأسدي؛ ومسرحية «النو» مع فايز قزق، و«السيمفونية» مع مانويل جيجي في المسرح العسكري، إضافة لمسرحية «الخادمات-1996» لجان جينيه مع المخرج نادر قاسم.

قدمت أمل العديد من الأدوار المسرحية اللافتة لكن أداءها الخاص لشخصية «فيدر-2004» للشاعر الفرنسي جان راسين؛ وبإشراف المخرج الفرنسي فرانسوا ميشيل بيزانتي جعلها أقرب إلى من ينحت جسده على الخشبة بلغة هائلة في طاقتها التعبيرية ورحابة مفرداتها، لقد استطاعت أن تنغمس في شغلها على «فيدر» بطاقة أخاذة وصاخبة محولةً حزنها على صديق عمرها الذي قضى في خطأ طبي أثناء بروفاتها على المسرحية إلى استحضارات كثيرة في الدور أثناء التمرينات اليومية؛ قافزةً على خشبة دار الأوبرا السورية، محولةً كل شيء أمامها إلى حساسية متصاعدة، غابت فيها حتى عن نفسها، متكئةً على اللغة العالية التي استطاع من خلالها الشاعر أدونيس ترجمة نص الشاعر الفرنسي الكبير؛ طاقة استثنائية شعرت بها هذه الممثلة أيضاً عندما مثلت دور «الملكة مارغريت» في مسرحية شكسبير «ريتشارد الثالث-2008» للمخرج الكويتي سليمان البسام، إذ يبدو أن اللغة هي كل شيء في المسرح كقناع يجب أن يتبعه الجسد، ولا شيء آخر. من هنا يمكن اعتبار عمران علامة فارقة في الريبرتوار السوري الجديد، مكملةً تجربتها في مسرحية «فوضى-2005» مع عبد المنعم عمايري، فانطلاقاً من إيمانها الراسخ بأن الفن المسرحي هو عمل جماعي أولاً وأخيراً ذهبت نحو ترجمة ذلك عبر العديد من العروض المناكفة للمسرح التقليدي في سورية:» على الخشبة لديك أصدقاء يجب أن تعرف كيف تتفاعل معهم وتفهمهم، وهذا لا يمنع من مقاطعة الجهد المشترك بين الممثل والمخرج ولكن أين نحن من كل ذلك؟ أين نحن من كل المدارس المسرحية التي تمتعت بإصرارها وثقافتها وطموح مسرحييها من بيتر بروك وآريان موشكين وهارولد بنتر؟».

بعد ذلك تابعت تجربتها بإخراجها نص «امرأة وحيدة» لداريو فو وفرانكا راما، مونودراما اعتمدت في تحقيقها على جهد لافت للممثلة ناندا محمد للعب على تغيير مفهوم الغائب المخاطب في عروض الممثل الواحد، لتتابع بعد ذلك مع المخرج أسامة غنم في دور استثنائي لامرأة صامتة قدمته عن توليفة نصية عن كل من الألماني «فرانز كزافيه كروتز» والإيطاليين «داريو فو وفرانكا راما» والإنكليزي «مارك رافنهيل». وذلك في مسرحية «حدث ذلك غداً-2010» العرض الذي تحدت فيه أمل أدواتها كممثلة صامتة لقرابة الساعتين أمام جمهور جاء لحضورها في محمصة فستق في إحدى حارات دمشق القديمة.

رغم ظهورها المبكر على شاشة التلفزيون في مسلسل «هجرة القلوب إلى القلوب» مع هيثم حقي والعديد من الفرص التي قُدمت لها لتشتغل في التلفزيون، إلا أنها رفضت تلك الفرص؛ لتهاجر بعدها إلى أميركا بعد حصولها على منحة لنساء العالم الثالث في جامعة سانتياغو لدراسة الرقص في جامعة أورانج كانتري. تعرفت المرأة هناك على جسدها محاولةً نسيان ألم ركبتيها بأنواع عديدة من الرياضة والرقص الإفريقي، والهيب هوب، غير حزينة لإضاعتها فرص العمل التلفزيوني الذي كان يتوق إليه أبناء جيلها، فهي لا تعتبر التمثيل أمام الكاميرا التلفزيونية شيئاً مهماً إلى هذا الحد، ولا تستطع الامتثال لهذا النوع من الأداء الذي يحوّل الفنان إلى أداة إنتاج في يد شركات لا يهمها سوى الربح وتكريس النجوم؛ ولذلك لم تلق بالاً «لمجد» الدراما السورية.

لم تخضع عمران لشروط التلفزيون واستهلاكيته حتى بعد عودتها من أميركا؛ لتقرر بعدها الذهاب إلى براغ للحصول على الماجستير في المسرح، ومن هناك قدمت أطروحتها في علم الجمال والمناهج المسرحية وحصلت على درجة جيد جداً من جامعة تشارلز؛ لكن رسوم التسجيل العالية منعتها من المتابعة فقفلت عائدةً إلى وطنها.

شغلها على أدوارها الصعبة لم يمنعها من إقامة ورشات مسرحية على مستوى عال من الأهمية، ولاسيما في مهرجان المونودراما باللاذقية وفي عملها مع طلاب معهد تياترو لفنون الأداء؛ مسجلةً لأرشيفها نوعاً جيداً من البحث مع الممثل، وفي بناء النص المسرحي عبر الارتجال الجماعي والفردي في آن معاً. مغامرة كانت قد حملتها إلى مونودراما شعرية بعرض «فصل في الجحيم» عام 1999 من إخراجها وتمثيل حلا عمران؛ عرض اقترب من شكل الأمسية الشعرية قامت فيه بتكسير اللغة وتطويعها ضمن سياق درامي محدد، لتقدمه في أكثر من بلد عربي وأجنبي، وفي أثناء تقديمها للعرض في اللاذقية اقترح عليها الفنان ياسر دريباتي فكرة إقامة ورش مسرحية خاصة بفن المونودراما، فكرة تشجعت لها؛ حيث كان عامل الوقت حائلاً بينها وبين تنفيذها فيما مضى إلى أن جاءت واشتغلت مع أربعين شاباً وشابة من طلاب جامعة تشرين، لتقدم في نهاية الورشة ما يشبه مشهدية نتجت عن عمل طويل ومتعب تواصل ليلاً نهاراً واستمر ما يقارب أسبوعاً كاملاً؛ ليقدم الجميع في نهايته ما يشبه مسرحية بعنوان «مذكرات يوم تافه» تم عرضه في مقاهي اللاذقية. هذه التجربة كانت غنية ومهمة لعمران لتكتشف أثناء عملها مع الشباب الهواة حباً جديداً للمسرح، شجعها فيما بعد على العمل على صياغة مشروع جديد عن نص لسعد اللـه ونوس «بلاد أضيق من الحب».

يبدو أن مفهوم النجومية في المسرح ليس من أهداف الممثلة السورية، فهي لم تعترف يوماً بوجود نجوم مسرحيين؛ وهذا ما حاولت تفعيله عبر ورشات متعاقبة للتخلص من المركزية الذي احتكرها المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق عبر أكاديمية أعادت النظر في أساليب إعداد الممثل؛ لقد أدركت أن الورش الحرة قادرة على تأهيل الكوادر، وهناك الكثير من الشباب الذين يحتاجون إلى الاعتراف بمواهبهم لا يريدون فنانين أو معدات فنية بقدر حاجتهم للاحترام والتقدير لما يقومون به، لذلك أدى شغلها مع الهواة إلى إعادة النظر في التمارين القديمة للكثير من الأكاديميات المسرحية في العالم؛ وفي كل الإرث الذي تركه ستانسلافسكي، وفي كل كتبه التي وضعها في إعداد الممثل، هذا ينطبق أيضاً في فهم غروتفسكي، فالكثير من تمارين هذا الأخير ونظرياته أصبحت اليوم تؤثر في أداء الممثل، وتشكل خطراً حقيقياً على كيانه الشخصي، ولاسيما لدى الممثل العربي. نتائج مهمة استخلصتها بطلة مسرحية «حدث ذلك غداً» انعكس في تعاملها مع هذه النظريات بحذر ووفقاً لشرط المكان الذي تدرّس فيه هذه النظريات، ولهذا لا تدخر جهداً في الذهاب إلى أبعد قرية سورية من أجل إقامة ورشاتها ومختبراتها المحلية. رغبة صادقة أبدتها عمران في عملها مع ورش التمثيل الحرة، ناقلةً حرارة أدائها إلى الكثيرين عبر ضخ عشقها لفن الخشبة من خلال الإيمان مجدداً بقدرة المسرح على إتاحة الفرصة أمام جيل كامل للتعبير عن نفسه، ومساعدته على فهم إنسانيته وتقديرها كقيمة لا تضاهيها قيمة أخرى.