2012/07/04
زياد عبد الله – الإمارات اليوم
كيف للبشر أن يظهروا أمام الكاميرا؟ أليست الكاميرا دافعاً كبيراً للبشر لأن يكونوا على غير ما هم عليه؟ وما ان تدور الكاميرا حتى يبدأ البشر بالتمثيل أمامها؟ هذه أسئلة تطال البشر العاديين ومتعلقة بداهة بالأفلام الوثائقية، كون من يظهر أمام كاميرا الأفلام الروائية ليسوا إلا ممثلين ومهمتهم أن يمثلوا، بينما يسأل الفيلم الوثائقي من يظهرون أمام الكاميرا ألا يمثلون، لا بل إن تمثيل الشخصيات سيكون نقطة ضعف جسيمة في بنية فيلم ينتمي إلى سينما الحقيقة، ولعل أحد أهم رهانات صانع الفيلم الوثائقي يتمثل في قدرته على التقاط البشر في حياتهم العادية كما لو أن الكاميرا غير موجودة.
في ما تقدم أول ما يمكن مقاربة فيلم المخرجة والشاعرة الإماراتية نجوم الغانم «أمل» الفائز بالجائزة الثانية في الدروة الخامسة من مهرجان الخليج السينمائي، وقد سبق له أن فاز بجائزة «المهر الإماراتي» في الدورة الثامنة من مهرجان دبي السينمائي، وليكون الحديث الذي بدأت به عن التمثيل واللا تمثيل أمام الكاميرا في الفيلم الوثائقي قادماً مما حمله فيلم «أمل»، الذي إن كان له أن يندرج في تجربة الغانم الوثائقية فإنه يأتي مكملاً لمسعى الغانم في توثيق الإمارات، وذلك في فيلمين سابقين شاهدتهما لها أي «المريد»، و«حمامة»، وكلاهما عن شخصيتين إماراتيتين، ففي الأول كنا حيال نبش لحياة المتصوف عبدالرحيم المريد وتتبع طرقه الصوفية وأتباعه في دبي، بينما يمضي بنا «حمامة» إلى تلك المرأة العجوز في الذيد وطبها الشعبي وقصصها وحيواتها، وليأتي «أمل» من الضفة الأخرى، إن صحت العبارة، بمعنى أن كون الفيلمين السابقين جاءا بمثابة وثيقتين عن شخصيتين حاضرتين بقوة في الحياة الإماراتية التي يصعب مقاربتها كما كانت أو كما استمرت رغم الأبراج والطرقات السريعة التي تفصلها عنها أو تفصلنا كمتلقين عنها، وليكون «أمل» عن الوافد إلى دولة الإمارات، أحلامه وكوابيسه، تطلعاته وخيبتها، وما بينها حياته بالتأكيد.
بالعودة إلى ما بدأت به، فإن أمل عنوان الفيلم وشخصية الفيلم التي يتمركز حولها ليست إلا ممثلة سورية اسمها أمل حويجة، وبالتالي فإن الحديث عن ما تسلبه الكاميرا ممن يقف أمامها في فيلم وثائقي لن يكون وارداً، فنحن أولاً وأخيراً أمام ممثلة وهي مشاركة أيضاً في كتابة الفيلم، بمعنى أنها شخص يعرف جيداً كيفية التعامل مع سطوة الكاميرا، لا بل إن التمثيل جزء من حياتها، والعكس صحيح أيضاً، وليبقى الرهان على الكيفية التي ستقاربها نجوم الغانم، وتضبطها متلبسة في حياتها كما لو أن الكاميرا غير موجودة.
قبل المضي خلف ما يوثقه الفيلم، يجب التأكيد أولاً أن فيلم «أمل» فيلم حيوي بكل ما تعنيه الكلمة، واتباع ذلك بوصفه بالحقيقي لن يكون متأتياً من صفات ترمى هنا وهناك، بل بمعنى أن «الحقيقي» في الفيلم هو الشرط الرئيس لنجاح أي فيلم وثائقي، وليست هذه الصفة تأتي من فيض مشاعر أو لحظات صادقة يلتقطها الفيلم، بل من توليفته الفنية أولاً وأخيراً، وبالتالي الشكل والاستثمار بالمادة الأرشيفية لحياة أمل حويجة نفسها التي تأتي متناغمة مع شخصية الفيلم الرئيسة التي تظهر أمام الكاميرا لتروي وتمثل وتعيش، وتنتقل من البيت إلى السوق إلى خشبة المسرح، ونتابع سردها وهي تقود سيارتها وتلتقي زوجها الذي يعيش في اليونان وغير ذلك من أفعال حياتها.
يحمل الفيلم مفارقة على اتصال بسؤال مفاده: لماذا يكون على فيلم وثائقي أن يوثق حياة ممثلة؟ وهناك إجابات كثيرة على سؤال كهذا، الأولى تتمثل في كونه يضيء على جوانب خافية من حياة الممثلة، وهنا سيكون الحديث عن نجمة شهيرة أو ما شابه، أو أنه يروي قصة من حياة تلك الممثلة لم تكن يوماً في فيلم أو مسلسل من تلك التي شاركت فيها، أو لأن هذه الممثلة لم تكن معروفة وهي التي تحمل مواهب كثيرة وقد ضاعت وتسربت من بين أصابع صاحبتها مع تقدمها في العمر، وليكون ذلك هو تماماً ما تقف له أمل حويجة في فيلم نجوم الغانم، وبكلمات أخرى فإن عدم ظهور أمل حويجة في فيلم سينمائي إلا في فيلم ريمون بطرس «الطحالب» 1991 وبدور صغير سيقابله فيلم كامل عنها يكون وثائقياً يتناول أسباب عدم ظهورها في فيلم آخر، لكن مع تحميل مسؤولية ذلك للغربة، لسفرها من سورية والتحاقها للعيش في الإمارات، بعد حصولها على فرصة عمل تتمثل بأدائها شخصية «مدهش»، وقد تم اختيارها من بين 150 متقدماً لهذا العمل، حيث ستكون أمل هي مدهش والعكس صحيح، صوتاً وحركات، صوته صوتها وكل ما يسأله الأطفال تجيب عنه بسرعة بديهة وطفولة لا تفارقها.
مع أمل حويجة سيتكثف كل ما يكون عليه المغترب/المغتربة، وأساليب العيش التي يبتكرها في هذا السياق، وتحديداً في الإمارات، فهي تعيش على الدوام بين عالمين، وكل ما تواجهه خاضع للمقارنة على الفور، إذ يكفي أن تشتري كل ما يلزمها لتحضير التبولة لتكتشف أنه ما من أحد لديه الوقت ليأتي ويشاركها أكلها، وبالتالي تعدل عن ذلك، وهنا سيستدعي منها ذلك استحضار سورية على الفور، كما أن المسرح لن يكون في حياة أمل سوى تمارين على الأداء، وتمارين صوتية ستكون بمثابة المؤثرات الصوتية أو الموسيقى التصويرية في الفيلم، وبالتالي ستقارن ذلك بالمسرح في سورية، وما يصنعه أصدقاؤها مثل مي اسكاف وناندا محمد وأمل عمران، وبالتالي استحضار ما كان يمكن القيام به لو بقيت في سورية، سورية المملوءة بالمواهب، إن كان لنا أن نمرر ذلك كجملة اعتراضية، مواهب في شتى مجالات الفن لا تجد لها موطئ قدم، مع فتح الباب لمادة أرشيفية لأدوار أدتها أمل حويجة على الخشبة السورية، وفي هذا تمهيد لما سيتصاعد في الفيلم، حيث ستكون الوحدة الكلمة المفتاح لما تعيشه أمل، وأي شيء يخل بهذه الوحدة سيكون طارئاً، يستمر ساعات قليلة ثم يعود كل إلى وحدته، بما في ذلك زوجها الذي يمضي معها أياماً أو اشهراً ثم يعود إلى منفاه اليوناني، فالجميع مشغولون، ولا مجال لترف الحياة الاجتماعية ومعها الحياة الفنية، وصولاً إلى ذروة كل ذلك في الربع الأخير من الفيلم حين يتوقف كل شيء في حياة أمل وتدخل في نفق الملل، حينها فقط ستقرر العودة إلى سورية وإحياء مسيرتها الفنية، لكن إنه توقيت سيئ، فهي سرعان ما تعود، فلا مكان للمسرح في سورية، وعليه فإنه ستعود مجدداً إلى الإمارات، لكن بشعر أبيض، تتركه ذلك كما يفعل كثير من السوريين حداداً وحزناً على الحاصل في سورية اليوم.
فيلم «أمل» مصنوع بحرفية عالية، وله أن يأسرنا طوال الـ88 دقيقة التي تشكل مدته، وهناك توظيف لكل ما في حياة أمل وما صنعته، بما في ذلك «الدوبلاج» الذي كانت تعمل به، فتوصيف أمل بأنها «برية» تعشق الطبيعة، سيكون على اتصال مع شخصية «ماوكلي» التي كانت تمثل صوته، حين تتوفى والدتها فإن مشهد من ماوكلي وهو يركض في البراري والدموع تملأ عينيه سيكون معبراً عنها تماماً، وربما أكثر من تلك اللقطات المأخوذة لها وهي تمشي في الصحراء، إنه فيلم عن تعاسة من يمتلك موهبة ويفرط فيها وتسرقه الحياة التي تتصل هنا بالغربة، وربما ما من أتعس من ممثل لا يمثل وكاتب لا يكتب ورسام لا يرسم!