2012/07/04
سامر محمد إسماعيل – تشرين دراما
لا يمكن الحديث عن الحراك الفني السوري في جميع أجناسه الإبداعية من دون الحديث عن تلك النزعة الوطنية التي تكتنفه، سواء عبر الفن التشكيلي أو المسرحي أو السينمائي أو حتى التلفزيوني، فالمواطنة السورية جزء لا يتجزأ من المخيلة الجمعية السورية، ولا تقتصر على فهم سياسي وحسب، بل إنها تنتهج لنفسها منحى اجتماعياً لصيقاً بها، ويرجع هذا التماهي بين الفن ووطنيته إلى قدرة السوريين على هضم مكونات حضارية عديدة أعاد السوريون إنتاجها وقولبتها ضمن مزيجهم الشعبي الخاص، يبدو ذلك في شكل العمارة وطبيعة المدن الكبرى، وقدرة الإنسان السوري على تجاوز محنه، وصياغة تاريخه القديم والمعاصر، هذه الوصفة السورية مازالت حتى الآن مثار جدل وتساؤل عن متانة اجتماعية عالية في خطابها، وفي التفافها حول رموزها الثقافية والروحية، فالطبيعة الوطنية ها هنا ليست وليدة لحظات زمنية خاطفة، بل هي مقاربة حضارية مستمرة لمعنى وجودها وكينونتها، مازال المؤرخون عاجزين عن تفسير سر التحام الشعب السوري بكل أطيافه في الثورة السورية الكبرى ضد
المستعمر الفرنسي، ورغم كل ما يقال عن قروية المجتمع السوري في نسبته الغالبة، إلا أن المدينة السورية ضاربة في قدمها، وأنتجت الكثير من مفاهيمها، هذا كله حاولت الدراما السورية نقله إلى الشاشة الصغيرة منذ انطلاقتها الأولى مع بث أول ساعة ونصف للتلفزيون العربي السوري في الثالث والعشرين من تموز1960 حيث برزت النزعة الوطنية في أعمال الفنانين الرواد وعلى مستوى عالٍ من الوعي بحساسية المجتمع نحو هذه القيمة الإنسانية عبر عشرات الأعمال التي اجتازت القصص التقليدية نحو توليفة بصرية تصالحت مع المضمون والشكل في آن معاً، فمن ينسى الفيلم التلفزيوني «عواء الذئب» (إنتاج التلفزيون) الذي أنتج العام 1974، من إخراج الراحل شكيب غنام حيث نقل الكاتب
خالد حمدي الأيوبي الفيلم عن قصة واقعية لرجل من منطقة الزبداني، يأسر طياراً إسرائيلياً تُقصف طائرته من قبل سلاح الطيران السوري. وهو من أكثر الأعمال التي استطاعت تقديم صيغة درامية قاربت الذهنية السورية في سبعينيات القرن الفائت، حيث نجد في نص «الأيوبي» طاقة جيدة على دغدغة المشاعر الوطنية من خلال حكاية رجل يُدعى «ديب بو عمر» (صلاح قصاص) يعمل في التهريب ومتهم في قتل أحد رجال الجمارك، يصادف أثناء اختبائه عن أعين الشرطة طياراً إسرائيلياً جريحاً (الفنان رضوان عقيلي) بعد إصابة طائرته «الفانتوم»
وتفجرها بصاروخ سوري. يُسر «بو عمر» عندما يخبره الطيار الجريح بأنه طيار سوري يقاتل في جيش بلاده، ولكنه سرعان ما يفاجأ وهو منهمك بإعداد الطعام لضيفه، بمسدس الاسرائيلي مصوّباً باتجاهه. فينجح الرجل في انتزاع مسدس غريمه الإسرائيلي. وهنا تبدأ مفارقات غنية، من خلال حوارات شفافة وذكية تدور بين «بو عمر» والطيار الإسرائيلي الذي يُفتضح أمره. فيعرض على «بوعمر» مبلغاً لقاء تهريبه إلى اسرئيل. لكن «بو عمر» يرفض قائلاً «الحيّة ما بتصير خيي يا موسى».
تعرض لقطات قريبة لكل من وجهي قصاص وعقيلي، تكشف عن لغة بصرية مكثّفة، للكلام الدائر بين رجلين عدوّين يتناولان الليل والشاي في مغارة باردة.
وتنتهي الحكاية بسوق «بو عمر» للطيار الإسرائيلي وتسليمه لمخفر القرية. ما يبعث الخوف في نفس خديجة (سلوى سعيد) لعلمها بأن زوجها بو عمر سلم نفسه للشرطة، وأن حبل المشنقة أصبح بانتظاره. فيردد «بوعمر»: «ألف حبل مشنقة ولا يقولوا بو عمر خاين يا خديجة..». فتصبح هذه الجملة بمنزلة صرخة دللت على تماسك المجتمع أيام الحرب، مبيناً قدرته على مواجهة عدوّه بعد نكسات ونكبات متتالية.
تبدو حكاية «عواء الذئب» رغم مشكلات السيناريو الذي كتبه لها شكيب غنام، وصعوبة التصوير الخارجي آنذاك، أكثر ملامسة لمشاعر السوريين الذين حفظوا «ألف حبل مشنقة» في الكادر الأبيض والأسود، لنلاحظ مشاهد مصورة سينمائياً في شارة النهاية، آخذةً طابعاً وثائقياً للحادثة الأساسية.
أعقب التلفزيون السوري «عواء الذئب» بإنتاج تمثيلية «العريس1975» لشكيب غنام أيضاً، وتمثيلية «حكاية من تشرين» من إخراج هاني الروماني، ومن ثم «الولادة الجديدة 1985» إخراج غسان باخوس. لينقطع بعدها إنتاج التلفزيون من الأعمال الدرامية التي تتناول الحرب حتى العام 1990، تاريخ إنتاج «سهرة من تشرين» الذي كان عبارة عن خمس سهرات تلفزيونية أشرف عليها شكيب غنام أيضاً. لكنها لم تنل صدى ما سبقها، ليظل «عواء الذئب» العمل الأبرز بين هذه السلسلة التلفزيونية المتقطعة، والعمل «اليتيم» في أرشيف تلفزيوني يحتفظ بلقطات حقيقية من معركة 1973 قام بتصويرها قسم السينما في الجيش السوري.
أعمال أخرى رافقت المرحلة كان رائدها شيخ الكار المخرج هيثم حقي فبعد عودته من دراسة السينما في موسكو أنجز حقي فيلماً هاماً عن الحرب بعنوان «التحويلة» لصالح القسم السينمائي في التلفزيون، أخذ فيه صوراً لحياة طبيعية في مدينة دمشق، حيث تعرض مبنى التلفزيون للقصف الإسرائيلي وكاد يودي بحياته من تلك السنة مع مجموعة من رفاق الدراسة.
بعدها صور هيثم حقي فيلماً آخر من كتابته وإخراجه بعنوان «مهمة خاصة 1974» عن تضحيات الجنود السوريين في عملية تحرير مرصد جبل الشيخ إذ استطاع هذا الفيلم أن ينتزع شهادة تقدير لجنة التحكيم في مهرجان لا يبزغ للأفلام الوثائقية، ليقدم من العام نفسه فيلم «النار والماء» عن قصة لزكريا تامر. وعن هذه الفترة يقول صاحب «خان الحرير»: «بدأنا العمل جميعاً في دائرة الإنتاج التلفزيوني ومؤسسة السينما، حاملين معنا هموم الوطن وحماسة الشباب، وأدوات التعبير الفني غير المصقولة بالتجربة بعد، حاولنا أن نعبر عن أنفسنا من دون خوف، وقلنا ما نريد في أعمالنا الوطنية القصيرة» ليصور بعدها شيخ كار المخرجين السوريين وثيقة هامة عن حياة عمال سد الفرات وعن واقع الحال في مدينة الثورة، فجاء فيلم وثائقي بعنوان «السد» يكشف من خلاله عن تضحيات الطبقة العاملة في إنجاز سد الفرات، وكان من أسباب هذا الفيلم أن لقب بمخرج الطبقة العاملة، لتطلب منظمة التحرير الفلسطينية من المخرج الكبير عبر دائرة الإعلام والثقافة في المنظمة إخراج مسلسل «عز الدين القسام عام 1981» عن نص للشاعر أحمد دحبور وبالتعاون مع تلفزيون قطر، حيث تعرض المسلسل لمرحلة هامة من نضال الشعب العربي في سورية وفلسطين ضد الاحتلال البريطاني لأرض كنعان، بعد ذلك كتب عبد النبي حجازي ملحمته التلفزيونية «هجرة القلوب إلى القلوب» ليخرجها حقي بلمسة فنية خاصة، وكان الإنتاج هذه المرة مشتركاً بين التلفزيون العربي السوري وبين مؤسسة الخليج للأعمال الفنية بدبي عام 1990، طبعاً كان نجاح «هجرة القلوب» ليتبعه صاحب «ذكريات الزمن القادم» في مسلسله «خان الحرير» حيث أطل المشاهد المحلي والعربي عبر جزأي المسلسل الأول والثاني على البيئة الحلبية لأول مرة في الدراما السورية،وعلى نبض الشارع السوري في الخمسينيات من حماس وطني وما اكتنف هذا الحماس من تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر، كما أطل بشكل خاص على الواقع الاقتصادي والاجتماعي لمدينة حلب من خلال قدرة عالية لدى كاتب النص «نهاد سيريس» ومخرجه على تقديم تشابك محكم للسياسي والاجتماعي والاقتصادي، من دون تجاهل بناء الشخصية درامياً لصالح مقولات قومية ووطنية كبرى. ليأتي بأعمال عديدة أكثر التزاماً بوعيه الثقافي الوطني والقومي كان أهمها «ملح ورماد 1998» لصالح قناة الـLBC عن نص ساحر للشاعر اللبناني الكبير جوزيف حرب، فقد كان المسلسل عن الحرب الأهلية اللبنانية وبمشاركة كوكبة من نجوم الدراما في بيروت على رأسهم السيدة نضال الأشقر والفنان أنطوان كرباج. ليتصدى بعدها لتحقيق مسلسله ردم الأساطير2002 الذي تعرض فيه لسرقة الصهاينة للآثار السورية بإبراز دور موقع إيبلا التاريخي في كشف زيف الادعاءات الإسرائيلية في أنها صاحبة الأرض، مسجلاً مقطعاً كاملاً بصوت الشاعر الراحل محمود درويش كمقدمة خصصها حقي لمسلسله الذي استقى منها عنوانه «عالم الآثار يبحث عن عينيه في ردم الأساطير» لقد كان نص عبد الرحمن الضحاك نقلة أخرى لمشروع وطني دأب من خلاله العمل السوري على نقل آرائه من حيز الفكرة إلى حيز العمل على مدى سنوات طويلة من الجهد المركز والمتواصل.
بالمقابل استطاع الفنان نجدة إسماعيل أنزور إنجاز ثلاثة أعمال عن نضال السوريين ضد الاستعمار الأجنبي، فكان في البداية «نهاية رجل شجاع» عن رواية شيخ الروائيين السوريين «حنا مينة» وبسيناريو لافت من كتابة الأديب حسن م يوسف نقل عبره أنزور فترة هامة من التاريخ السوري المعاصر مع نزول القوات الفرنسية على الساحل السوري1920 واندلاع الثورة السورية، وذلك عبر روائية تلفزيونية استفادت من حياة صيادي البحر وعمال مرفأ اللاذقية؛ حيث لم يهمل السيناريست والمخرج ملامح الحياة الاجتماعية السورية في تلك الفترة، بل قدم رؤيته الفنية من خلال تلازم الخط الوطني مع الاجتماعي مسجلاً شذرات هامة من أصالة الإنسان السوري، ورفضه للظلم حتى في منابته الشعبية البسيطة، والأكثر انسحاقاً تحت عجلة الفقر، مشاهد عريضة لبحر وجبال اللاذقية كرسها نجدة أنزور في سياق حلقات «نهاية رجل شجاع» عارضاً لرحابة البيئة السورية وخاصيتها الحياتية الغنية بمفرداتها المعيشية اليومية، والمنتصرة دائماً لكرامة إنسانها وعزته وبسالة روحه. أسلوب تابعه صاحب «الموت القادم إلى الشرق» عبر ملحمته التلفزيونية وبتعاون مع الكاتب حسن م يوسف في «أخوة التراب» الذي تعرض عبر سرده الحثيث لمآثر الثورة العربية في سورية ضد الخلافة العثمانية، مشاهد بالغة التأثير قدمها أنزور عن النزعة القومية عند الشعب السوري بما قدمه هذا الشعب من شهداء لوطنه في سبيل الخروج من أربعمئة عام من السبات، ستمضي سنوات طويلة قبل أن يقدم أنزور فيلماً سينمائياً بعنوان «رجال الوفا» عن بطولات المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان عن سيناريو لمحمود الجعفوري، ليقدم بعدها مسلسله «رجال الحسم» عن بطولات الجيش السوري في حرب تشرين1973 من خلال حبكة جاسوسية يقوم عبرها ضابط سوري في متابعة شبكة للموساد في أوروبا، توليفة جديدة في عمل هذا المخرج الطليعي كون من خلالها رؤيته الفنية لراهنية الوطن كقضية حاسمة في المعيش اليومي للسوريين.
الفنان باسل الخطيب استطاع أيضاً أن يقدم رؤية فنية جديدة في تناوله المستمر لموضوعة الوطن في المسلسل التلفزيوني، فكانت رائعته «أيام الغضب» عن فترة الاحتلال الفرنسي لسورية بعيداً عن كليشيهات العرض الدرامي التقليدي، بل لجأ الخطيب إلى مقاربات درامية ذكية في تصوير الحراك الوطني السوري من غير الذهاب إلى مبالغات بصرية أو نصية، منقباً عن طبيعة المجتمع، وحاجته الحقيقية إلى الحرية والانعتاق من المستعمر، قد يبدو هذا ليس شيئاً في أعمال أخرى، خصوصاً في رائعته «رسائل الحب والحرب» عن سيناريو أخاذ للكاتبة ريم حنا التي ذهبت هي الأخرى إلى مساحة جديدة من السرد التلفزيوني، ولمرحلة أكثر حساسية من تاريخ البلاد، حيث أنشأت «حنا» روايتها ضمن قالب حميمي، قصة حب عجيبة بين جنرال متسلط وفتاة، لتطل الكاتبة على الحرب الأهلية اللبنانية، ودخول الجيش السوري على أعقاب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982؛ حكاية جدل الخطيب خيوطها ببراعة بصرية، وبكاميرا حساسة لشخصيات تعرفت على وطنها رغم كل القسوة المحيطة بها، لتؤكد «رسائل الحب والحرب» أن الوطن يظل بعيداً عن كل التوافه الدنيوية، ولكن دون الإطناب والمبالغة في رسم الشخصيات/ لاسيما شخصية «عروبة- ريم علي» التي تقع أسيرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، استعارة رائعة قطفتها حنا من المخيلة القومية للمناضلة الجزائرية «جميلة بوحيرد» وبمقاربة درامية لافتة.
أعمال الخطيب لم تقتصر على الهم الوطني، بل تعدته إلى أعمال هامة في «عائد إلى حيفا» عن رائعة الأديب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني، ومن بعدها عمله الأخير «أنا القدس» حيث استطاع صاحب «الطويبي» عكس المأساة الفلسطينية من أعمق نقطة، ألا وهي البحث في المدينة الفلسطينية كأيقونة تاريخية مقاومة، مستعرضاً حياة الفلسطينيين في هذه المدن، وأنماط عيشهم، مواطنتهم المغتصبة بخدعة تواطأ العالم فيها على عرب كانوا يحفظون دروب مدنهم وقراهم عن ظهر قلب.
طبعاً الفنان حاتم علي قدم أيضاً مقترحاً هاماً في هذا السياق في مسلسله «التغريبة الفلسطينية» عن نص عالي المستوى للشاعر والكاتب الفلسطيني «وليد سيف» لكن الأهم فيما قدمه علي برأيي كان فهمه الخاص للوطن والمواطنة، حيث عكف على حساسية مغايرة في قراءة هذا المفهوم من خلال أعمال اجتماعية بحتة، لكنها في صميمها اكتنفت تشريحاً هادئاً ومتوازناً للحياة الاجتماعية الناهضة، فلم يبق الوطن درامياً في الحروب والثورات، بل في المعيش اليومي، في قراءة هذا المعيش من خلال علاقة الإنسان الجديد بمقدرات بلاده، وهذا كان ملمحاً غاية في الطموح لحاتم علي من خلال أعمال قاربت الواقع والمجتمع السوريين من وجهة نظر نقدية، مكتسحة بشفافية استثنائية مفهوماً اجتماعياَ صرفاً، جاء ذلك في «أحلام كيرة، عصي الدمع، ندى الأيام» وقبلها «الفصول الأربعة» لملامسة الهم العام ومحايثة الوطن من منظار الحياة وماذا فعل السوريون في أيام رخاءهم، ماذا فعل السوريون بمكاسب ثوراتهم الوطنية وحروبهم التي خاضوها دفاعاً عن كرامتهم الوطنية، كل ذلك كان «علي» يرصده بدقة لبيان غنى الشارع السوري وثراءه الحياتي وقدرته على تجديد دورته الدموية باستمرار.
عمل آخر لا يقل أهمية عن سابقتها قدمها الفنان الراحل هاني الروماني في سلسلته الجريئة «حمام القيشاني» جاء من إصرار الروماني على نسخة مجايلة لأعمال درامية مصرية استطاعت أن تتبوء ضمير المشاهد العربي من خلال كيمياء خاصة تتحرك في الاجتماعي الذي لا ينفصل عن سياقاته التاريخية أو السياسية. من هنا كانت حياة الأحزاب السياسية في سورية المعين الأصلي لدراما تجاورت مع أهم التحولات الاجتماعية في المجتمع السوري الناشئ بعيد الاستقلال، فثمة الكثير من الأحلام القومية الكبرى، وهي على أكثر تقدير كانت تتهياً لإثبات الأبعاد العلمانية في مجتمع يتوق إلى التغيير والتطور واللحاق بركب الأمم المتحضرة، لقد أدرك الروماني أن نص /دياب عيد/ يوفر له بنية لرواية تلفزيونية معقولة، لكن حجم الجرأة وطريقة المعالجة الدرامية لم تستمر على سويتها في الأجزاء التالية للجزأين الأول والثاني، حيث انساقت القصة إلى ما يشبه أعمال البيئة، ولم تتمسك بالروي التاريخي للأحداث، وأكثر من ذلك أن «القيشاني» لم تستطع مياهه الرائقة أن تنطلي على الرقابة، فهذه الأخيرة كانت ماتزال تراوح عند أخطاء التقدير، متذرعةً بأن حركة الأحزاب في سورية ليست مجالاً للتسلية وتزجية الوقت، مؤكد لم تكن نية المخرج أن يصرفوا أوقات المُشاهد، بقدر إصرارهما على تسجيل نسخة من «ليالي حلمية» أخرى باللهجة السورية، هذا الحلم الذي اتضحت خيوطه مرةً بحكايات العشق بين نساء حارة القيشاني ورجالها، ومرةً في الحديث، محض الحديث عن أحداث كبرى في حياة الوطن السوري، فالصحافة الوطنية التي وقفت آنذاك في وجه المخططات الكولينيالية الكبرى، والفتيات والفتيان المنتظمين في الأحزاب الجديدة ستتحول حكاية نضالهم إلى مواعيد للعشاق والحيارى، وسيصير التحدث عن النظريات الإيديولوجية نوعاً من نصب الشراك، إلا إن ما يشفع لهذه المفارقة هنا هي هذه الأجزاء الخمسة التي قدمها صاحب شخصية «أسعد الوراق» من التاريخ السياسي المعاصر في سورية، لنكون أمام توليفة مغايرة لنساء دمشقيات يخرجن من ملاءاتهن إلى اجتماعات الأحزاب اليسارية، حمام القيشاني جاوره عمل غاية في الأهمية في طرح مرحلة الانقلابات العسكرية في سورية عبر رواية الكاتب الكبير فواز حداد «الضغينة والهوى» وبإخراج المثنى صبح عن سيناريو للراحل الكبير ممدوح عدوان حيث تعرض «الدوامة» لحقبة امتدت من عام 1949 وحتى عام1952 تحدثت عن المحاولات الخارجية للهيمنة على النفط السوري، وما تبع ذلك من سلسلة اغتيالات وانقلابات وتجاذبات سياسية عاشتها سورية، لنرى وفي محاولة جريئة من «صبح» إعادة الحياة لمدينة دمشق مطلع الخمسينيات، شوارعها/ الميترو/ الفنادق/ الحدائق، الجامعة السورية، طلابها، أهل الشام الخارجين لتوهم من نير الاستعمار الفرنسي إلى هواء الاستقلال، كل ذلك عبر حبكة بوليسية لجواسيس إنكليز وفرنسيين وأمريكيين وبطانة عسكرية فاسدة، قدمها العمل بإطلالات خاطفة على نسيج المجتمع الدمشقي السوري آنذاك، وبمقاربة بصرية لافتة.
حاصله أن الدراما السورية لم تكن في أي عمل من أعمالها على تعدد وعديد أنواعها، بل كانت في كل مرة تطرح القضايا الوطنية، إن لم تكن من باب تاريخية الثورات السورية، فإنها كانت من جوهر الحياة الاجتماعية، وهذا مرده إلى جوهرية القضايا الوطنية والقومية في حياة السوريين، وهكذا لا يمكن لأي عمل في الدراما السورية إلا أن يكون وطنياً بمرتبة شرف.