2012/07/04
شكري الريان
رمضان انتهى.. هذا اليوم الأخير منه.. وأعتقد أن من بقي صامتا حتى اليوم فعليه أن ينطق أو يبقى صامتا إلى... رمضان التالي، ربما. ولا أظنه سينطق لا في رمضان التالي وحتى آخر العمر..
يقولون أنهم، وأقصد صناع الدراما في بلادنا، قدموا لنا فناً.. حسناً، سأقبل بهذا ولكن مبدئياً.. وإن أردنا أن نُعرّف هذا "الفن" فليس المطلوب أبداً أن نحاول نكش ذاكرتنا بكل أنواع المصطلحات التي نسيناها أو تلك الأخرى التي بقينا نتشدق بها، من باب لفت الانتباه ليس إلا. المطلوب فقط وببساطة أن نتبع إحساسنا، وأيضا ليس إلا...
إنه فن، والفن هو وقبل كل شيء إحساس. والدراما جزء من هذا المدى الواسع الذي يقولون إنه فن. حتى أن بعضهم أدرج تحت هذا التصنيف أشياء قد لا تخطر ببال الحشاشين في ذروة.. لا أدري ماذا أقول.. أهو "الاصطهاج"؟!!.. ربما علينا أن نعود إلى "عماد رفرفت" لنفهم بالضبط ماهو المقصود بهذا المصطلح. وبما أن عماد ضاع مع من ضاع في رحلة "أبو جانتي" التي لا أعتقد أنه كان لها غاية من البداية، فسيكون من العبث الركض خلفه للوصول إلى نتيجة هو نفسه لم يعرف، ولا أعتقده سيعرف يوماً، ماهيتها.. وفي هذه الحالة لا يبقى لنا إلا أن نعود إلى تلك التعريفات البسيطة والواضحة والمباشرة التي أجادتها أمهاتنا عبر قرون طوال.. وعندما أتحدث عن أمهاتنا فأنا أقصدهن بالضبط، في جلساتهن الهادئة والمستكينة وهن يتابعن ما يدور على شاشة عرفنها، وربما لم يعرفن غيرها، طيلة أعمارهن التي نتمنى أن تطول إلى آخر الدهر..
طبعا الأمهات عبر التاريخ لم يعرفن شاشة إلا بعيد اختراع الجهاز السحري المسمى تلفزيون، ولكنهن عندما دخلن للتعامل مع تلك الشاشة السحرية كن قد أجدن اختصار كل الحقائق في عبارات "فصيحة" حملت كل المعاني عبر ما سمي بالأمثال. وأُراهن أنهن، أي الأمهات، هن من يقفن خلف تلك المعجزة المستمرة في الحدوث إلى يومنا هذا، أي الأمثال، حيث لكل حالة مثل يطابقها بكلمات قصيرة ومختزلة ولكن معبرة وتصل إلى عمق الحقيقة (ملاحظة إلى يم مشهدي عساها تفلح يوماً في إنجاز عمل يحمل معنى ما ورائحة حكاية)..
تقول أمهاتنا "بالعروق مو بالخروق". ربما قصدن تعريف "الرجل" كما كن وما زلن ينظرن إليه. ولكن لو أردنا سحب هذا المثل إلى مجال أوسع، وهو بالمناسبة يحمل الطاقة الكامنة الكافية لتعميمه بعيدا عن مجال الذكورة أو حتى الفحولة، حيث الفحولة وحدها تختصر الرجولة كلها للأسف عند الكثيرين، لو أردنا سحب هذا المثل على موضوع حديثنا أي دراما رمضان الأخير بالذات، لوجدناه مطابقا مائة بالمائة لما نريد الحديث عنه.. ولكن مهلاً.. علينا أن نحدد هنا وبالضبط ماذا نقصد بالـ"عروق" وماذا نقصد بالـ "الخروق"..
الخِرقة هي تلك القطعة من القماش التي تستر عورة وربما حجبت حقيقة ما عبر إعطائها شكلاً قد يكون معاكساً لتلك الحقيقة.. وكلمة الخرقة بالذات تحمل في طياتها دلالة إقصائية واضحة لا تحتاج إلى تفسير.. إنها قطعة قماش بالية في كل الأحوال ولن تستر شيئا، حيث الحقيقة ستبقى واضحة وللجميع.. أما العرق وهو ذاك الشريان الكامن تحت الجلد في ساعد ما أو ربما في عضو آخر من الجسد.. لن أستفيض خصوصاً في مواجهة مخيلة خصبة لقراء لا يرحمون أحداً... وهو، أي العرق، في موقعه الكامن في الداخل يبقى تلك الحقيقة الباقية والواضحة للعيان في آن، حتى ولو حُجبت بجلد الجسد أو بأي نوع من أنواع الخِرق..
إذا فنحن في مواجهة بين نقيضين تاريخيين، الحقيقة والزيف، تختصرها عبارة واحدة بثلاث كلمات فقط لا غير (ثلاث كلمات وليس ثلاثين ساعة تلفزيونية من العذاب المستمر، وهذه ملاحظة للجميع باستثناء ممدوح حمادة، حيث حولت الساعات بين يديه إلى لحظات). وهذه المواجهة ظهرت جلية بالذات في رمضان الأخير وبالتحديد بين أصحاب "العروق" وأولئك اللذين بقوا محافظين على "الخروق" معتقدين أنها هي ما بقي لهم وللجميع. ولكن هيهات، فالعروق أطلت ولو من تحت سبع طبقات من الخروق..
والأمر كان جلياً في حكاية لا تملك من مقومات الحكاية إلا "خروقها" و... أغنية الشارة.. طبعا أقصد مولانا "أبو جانتي" في تلك الرحلة التي لا يعرف أحد، ولن يعرف أحد، إلى أين ستصل.. حيث تركنا أبو جانتي يوم أمس، التاسع والعشرين من رمضان، على بسطة البطيخ ونحن نبحث حتى تحت البطيخ عن أبو ليلى عساه يطل علينا فيعطي العمل بريقاً لم يمتلكه للحظة واحدة إلا بوجود أبو ليلى حتى ولو على طرف الكادر... المفروض أن الفنان أيمن رضا "سنيد" في هذا العمل المفرغ بالكامل لإبداعات الفنان سامر المصري.. ولكن السنيد سحب كل شيء وبسطة البطيخ معه معتمداً على أدائه، أقصد "عروقه"، معطيا الجميع درساً، لا أعرف كيف ننساه دائماً وأبداً، حول أن هذه "العروق" بالذات هي التي تبقى. حيث يمكن لأداء الفنان لشخصيته أن يضيف وأن يجذب وأن يمتع فعلا بالاعتماد على هذا الإحساس وحده جهة الشخصية، قدرته على قراءتها والعيش داخلها وإعطائها ملامح تقنعنا كمشاهدين بأنها حقيقية والأهم قريبة من القلب. بحيث لا تنسى ويتم البحث عنها دائما كائنا ما كان دورها في العمل أو في المشهد أو حتى في مجرد جملتين في أغنية شارة أريد لها أن تكون كل العمل...
نفس الحكاية تتكرر ولكن بشكل معكوس هذه المرة وفي عمل ناجح بالكامل.. نصاً وأداء وأخراجاً.. وأقصد بالطبع "ضيعة ضايعة 2". وربما كان التحدي هنا أصعب وبكثير.. وهو للحقيقة كذلك.. فالجميع بدءا من الفسّاد عادل وانتهاء بالمعترة ديبة (المتألقة تولاي هارون)، كانوا تماماً في نفس المكان والزمان بكامل... ليس بخرقهم، إنما بأحاسيسهم، حتى تلك المتعلقة بالعصب الوركي عند خليل الدكنجي.. ومع ذلك كان يكفي أن يظهر أسعد حتى نلتفت جميعا إليه وسط هذه الكوكبة من "الفنانين" فعلاً. لن أستفيض في شرح ما قدمه الفنان نضال سيجري عبر أدائه لشخصية "أسعد خرشوف"، يكفي فقط أنه أوصل ألينا إحساساً رائعاً وحياً ومنعشاً بأنه تحت كل هذه الكتلة من السذاجة المولدة للكوميديا والإكسسوارات المساعدة بدءا من الحذاء العسكري السميك وانتهاء باللفحة الصفراء على الرأس، يوجد إنسان جدير بأن يُحب لأنه قادر دائماً وبدون أية شروط مسبقة على الحب.. أليس هذا إنجازاً قائماً على تحد لا علاقة له بأي نوع من أنواع الخِرق وسواه من تلك الأشياء التي تحاول أن تستر فلا تفعل إلا أن تفضح.. إنه ببساطة قدرة ذاك الفنان على أن يصل إليك بأقصر الطرق الممكنة عبر إحساسه فقط لا غير. تلك الشارة الملتقطة دائما من قبلك كمشاهد سواء أكان المُرسل ينعم في بريق تألق جماعي (ضيعة ضايعة) أو كان وحيدا في رحلة ضائعة لا يعرف أحدا لم بدأت أصلا (أبو جانتي).. أو.. أو.. الأمثلة تتكرر.. واكتفيت بمثالين متناقضين تماما لتكون الصورة واضحة..
ويبقى السؤال واحداً لصناع الدراما ونجومها في بلادنا.. هلا سلكتم ذاك الطريق الأقصر ووفرتم علينا وعليكم وجع القلب والعمل على خِرق ستبقى خِرقاً حتى ولو طرزت بالذهب.. أم أن أمر العروق بات محسوماً منذ زمن وعلينا، بذكائنا وحده، أن نكتشف الأمر ونعود إلى سابق عهدنا خارج رمضان.. حيث التركي وسواه بالانتظار؟!!!.. بالمناسبة، لو حصل هذا.. فعلى أي شيء ستعملون في رمضان وسواه؟!!.. هل أترك الأمر لذكائكم الآن.. أم أحيلكم إلى شغلة "أبو جانتي" بصفتها نبوءة؟!!..