2012/07/04
رامي باره
لا يعني احتفالنا باليوبيل الذهبي للتلفزيون عَدّ السنوات الخمسين مكررين الأرقام الأولى انتشاءً بفترة الستينيات، وإن آثرنا الاكتفاء بذلك فالأحرى بنا أن نعود للعيش بتلك الفترة، لقد قال مرةً أحد الحكماء أن النساء تحزن في أعياد ميلادها بعد الخامسة والأربعين، لأنها تشعر بأن سنوات شبابها قد بدأت تنطفئ..
عسى ألا يكون احتفالنا بخمسينية التلفزيون يشبه حزن النساء بعد الخمسين، وعسى أن تكون الاحتفالية نفضاً للغبار الذي ملأ ساعات البث على تلفازنا وصديقنا العتيق، الذي كان رمزاً لنا عندما كنا صغاراً، وأشحنا بوجهنا عنه عندما كبرنا ورأينا بريق فضائيات العالم بالجهاز الصغير (الريسفر) الذي أدخله أباؤنا إلى منازلنا الصغيرة بابتساماتهم العريضة، ناكثين بعقد الصداقة التاريخية التي جمعتنا بصديقنا (الأوحد سابقاً) بعد أن ضاقت صدورنا بأحاديثه وبرامجه وحواراته التي لم تعد تؤنسنا...
وبعد سنوات يعود بنا أحد مدرائه السابقين ليبرر لنا هذه القطيعة «بأن التلفزيون السوري الرسمي هو تلفزيون جاد، وفي نهاية الأمر أمامه مهمة هي إيصال رسالة، ليس المهم أن تحسب الوقت الذي يجلس فيه المتابع أمام التلفزيون، فقد يكون لديك جمهور نوعي قليل هذا أفضل من جمهور كبير تفكيره مسطح يريد متابعة أفلام والفيديو كليب..»
وكأنه يقول لنا بأن المضمون الجاد والهادف هو نقيض كل ما هو ترفيهي وممتع، متناسياً أيضاً السلاح الجديد التي منحتنا إياه التكنولوجيا، وهو جهاز التحكم الذي أصبح من خلاله المشاهد يفرض على شاشته ما تعرض، بعد أن فرضت عليه لسنوات برامجها القسرية.
ولأننا أحببنا هذه الشاشة وارتبطت ساعات عمرنا الفتية بمجالستها علينا أن نحكي صراحةً ما قدمت لنا (وهو الكثير)، وما رغبنا أن تقدمه وعجزت عن تقديمه، ولعل محاولتنا أن تكون خطوةً صغيرة في طريق إعادة شاشتنا إلى بريقها:
ولنقل أولاً أن البداية المشرفة للتلفزيون السوري بأقل من خمسين موظفاً (من معدين وممثلين ومخرجين وفنين وعمال...) يعملون على البث المباشر باستخدام الديكورات المتجاورة (دون وجود تقنيات البث المسجل)، حتى في الأعمال الدرامية الأولى التي استخدمت إزاحة تلك الديكورات كافةً للتمكن من تنفيذ تلك الأعمال وبثها في وقت واحد، حيث كان أولها "ثمن الحرية" الذي كتبه عادل خياطة. لعل تلك البداية جعلتنا ننتظر اليوم الكثير من أكثر من ستة آلاف موظف يعملون في هذا التلفزيون، خصوصاً وأن أهم الفضائيات العربية لم تصل حتى منتصف هذا العدد، فقنوات الجزيرة مثلاً يُقدر عدد موظفيها بـ 1200 موظف!! ورغم الميزانية الكبيرة للتلفزيون السوري التي قاربت 33 مليون دولار، لم نشاهد منذ سنوات عديدة برامج ضخمة تعكس تلك الميزانية.
ولا ننكر الدور الكبير الذي لعبه التلفزيون السوري في زرع بذرة الإنتاج الدرامي المحلي وجهده في رعاية تلك البذرة التي نبتت ووصلت إلى معظم الفضائيات العربية، ولكننا نتساءل عن سبب تدهور الإنتاج الدرامي في التلفزيون السوري بشكل ملحوظ من حيث الكم والنوع، وبعد أن أصبحت معظم الفضائيات الأكثر جماهيرية تطلب مواصفاتٍ معينة في الإعلانات التي ستعرضها من حيث المستوى الفني والتقني على صعيد الشكل والمضمون، أصبحنا كإعلاميين نخجل – للأسف- من المستوى الإعلاني الذي يُعرض على شاشات التلفزيون السوري، والذي تحوّل إلى مدعاة للسخرية والتهكم لدى البعض.
رغم تلك السليبات التي ذكرناها نتمنى – بدافع الغيرة- من القائمين على التلفزيون العربي السوري السعي نحو تغيرها للأفضل، لتعود قنواته إلى المنافسة في الفضاء الإعلامي العربي، متأملين ببعض المؤشرات التي ظهرت في الآونة الأخيرة ومنها إطلاق "الفضائية التربوية" و"سورية دراما" والحديث عن إطلاق فضائية إخبارية متخصصة وأخرى رياضية، وطامحين لأن تعكس بعض المؤشرات الأخرى نتائجها على قنوات التلفزيون السوري شكلاً ومضموناً، ومنها الاتفاقيات التي عقدها التلفزيون مع المؤسسات الإعلامية الأخرى (كتلفزيون "روسيا اليوم")، وملتقى الدراما الذي عقده التلفزيون السوري بغرض الالتقاء بين القطاع الإنتاجي العام والقطاع الخاص في الأعمال المستقبلية، وقرار مجلس الوزراء الذي قضى بتمتع الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بالشخصية الاعتبارية والاستقلال التلفزيون المالي، بعد أن كان التلفزيون السوري يعتمد على قانون صدر عام 1951 خاص بالإذاعة، أي ما يسبق ظهور التلفزيون السوري بتسع سنوات.
إن طموحاتنا الكبيرة في التغيير، وإن لم تنبع من الواقع الحالي للتلفزيون، فإنها تنبع من تاريخ ولادة هذا التلفزيون في الساعة الثامنة من مساء سبت 23 تموز 1960، حيث كانت هذه الولادة في أحضان الوحدة بين سورية ومصر، واعتباره أول تلفزيون في المنطقة العربية، وانطلاقه بنفس اليوم الذي انطلق به (التلفزيون العربي بالقاهرة)، ووضعه في موضع المنافسة الشريفة مع مصر (الأقليم الجنوبي) التي كان لها تجربة كبيرة في السينما والإذاعة والمسرح، وارتباط منصب مدير التلفزيون منذ البداية بأحد ألمع الأسماء في مجال الثقافة والإعلام، وهو الدكتور صباح قباني الذي ارتبط أسمه سابقاً حين كان مديراً لإذاعة دمشق بابتكار موجز الأخبار في الإذاعات العربية، عندما أدخل الموجز (ثلاث دقائق) في كل ساعة إلى إذاعة دمشق، كما ابتكر حينها برنامج "حدث في مثل هذا اليوم" والذي اعتُمد قالبه في العديد من الإذاعات والمحطات العربية حتى وقتنا الحاضر، كما ارتبط اسمه سابقاً باحتضان إذاعة دمشق لكل من إنتاج الأخوين الرحباني وعبد الحليم حافظ، واعتبرت الأعمال الأولى التي اشترك في صناعتها كل من خلدون المالح ودريد لحام ونهاد قلعي نواة في صناعة الكوميديا في الفضاء العربي...
إن تلك البداية المشرفة قد تكون نعمةً علينا إن استطاع التلفزيون الاستمرار بانتصاراتها رغم التحديات بما يتأتى مع وقتنا الراهن، وقد تكون نقمة إن توقفت هذه الشاشة عن الإبداع والتجديد، وفكرت وخططت بنفس العقلية القديمة حينما كان التلفزيون اختراعاً جديد، يُصفق له الجمهور لمجرد ظهور الخطوط السوداء على شاشته.