2012/07/04
سلوى عباس - البعث
هل الحياة تفرضُ علينا أقدارنا، أم أننا نحن الذين نختارها..؟ أم أن ماتبقى لنا من عمر قصير هو ما يجعلنا نهرب من ذواتنا لننكفئ على أوجاعنا التي حفرت أخاديدها في أعماقنا، دون أن يلامس أحدٌ مابداخلنا من جروح تنزف ألماً لنرى أنفسنا نتلاشى في عتمة لا مستقر لها، عتمة تنبض بحزن مقيم في الحنايا ومن تسبّبوا بها هم آخر من ينتبه إلينا..؟.
لعلّ حالة الحزن التي لمستها عند الفنان خالد تاجا في أكثر حواراته هي ما جعل هذه الأسئلة ملحّة في ذهني، فمن المستغرب ألا تستطيع سنوات النجاح والتميّز الطويلة في عملنا أن ترمّم مابداخلنا من ألم، وأن تحصّن إنسانيتنا من استباحات الآخرين الذين ربما يكونون أقرب الناس إلينا، فكم هو مؤلمٌ أن يعترف فنان مثل خالد تاجا أنه يعيش وحدة مؤلمة رغم كثرة الناس من حوله، فهو حزين ويعيش خصاماً مع ذاته، وقد حاول الخروج من وحدته بالكتابة ليخفّف من مشاعره وأحاسيسه وأحلامه التي جعلته يعيش وحيداً، فالناس من حوله لم يستطيعوا أن يلغوا وحدته، ويؤكد أن هناك أموراً في الحياة فُرضت علينا ولم يكن لنا دور في اختيارها، فنحن أتينا للحياة مرغمين، وسنغادرها مرغمين، وقد وثّق حياته بمقولة حفرها على كتف قاسيون لتكون شاهداً على خيباته وانكساراته تقول: "مسيرتي حلم من الجنون.. كومضة شهاب زرعت النور في قلبي لحظة ثم مضت"!!.
ومع أن مسيرة خالد تاجا الفنيّة قد بدأت ببطولة سينمائية، إلا أن تألّقه الحقيقي كان عبر الدراما التلفزيونيّة من خلال أعمال عديدة قدّمها مع نخبة من المخرجين المتميّزين، حقّق فيها حضوراً فنياً كرّسه أيقونة للدراما السورية.
وإذا حاولنا استحضار الأعمال الدراميّة التي تميّز بها الفنان الراحل خالد تاجا لعجزنا عن الاختيار لأنه تميّز بالأعمال التي قدّمها كلّها ومن دون استثناء، حتى لو تفاوتت نسبة التألّق فيها بين عمل وآخر، فهو عبر تاريخه الفني الطويل كان يتمتّع بفضول طفل يجعله يتجوّل بين الشخصيات لاكتشاف أنماط ونماذج جديدة موجودة في داخله، يستحضرها كلّها وينتقي منها الشخصيّة المناسبة للدور المطلوب منه أداؤه، وبعد حياة امتدت لأربعة عقود يرى أن الفنان الذي لايستطيع أن يكون واقعياً في مشاهده متلبّساً ثوب الشخصيّة التي يؤديها لايصلح أن يؤدي دور كومبارس، لذلك كان يتلوّن مع شخصياته المكتوبة، وقد يضيف إليها من عنده ليوضح معالمها أكثر.
لم يكن خالد تاجا يعترف بفنان ليس لديه مشروع، ولم يكن يؤمن بفكرة الفن للفن، إذ لابد للفنان من مشروع يقدّم من خلاله رسالة يعبّر من خلالها عن هويته كفنان له دوره الهام في المجتمع، ويرى أن الفن تجربة قابلة للفشل والنجاح، ويأسف أن الدراما سلعة تخضع للعرض والطلب في سوق المحطات، وعلى الفنان أن يبذل جهده ليقدّم الشخصيّة التي يجسّدها بالصورة التي يجعلها راسخة في مخيّلة الجمهور الذي يعدّ هو الحكم الأهم على هذه التجربة.
وكان متأكداً -رحمه الله- من أن حضوره في أي عمل درامي يلفت النظر إليه بغضّ النظر عن حجم الدور ومساحته، لأنه كان يجهد كثيراً في البحث عن مفاتيح الشخصيّة ذات المساحة الصغيرة، بنفس الجهد الذي يبذله في البحث عن مفاتيح الشخصيّة الكبيرة، وكثيراً ما كان يتدخل في صياغة الشخصيّة لصقلها وتقديمها كاملة دون أي ثغرات، فأدواره كلّها تقوم على العفوية المدروسة التي تمنح الأداء عذوبة خاصة وتقرّبه من المشاهد، فكيف ننسى أبو ربيع في قاع المدينة، وأبو منذر في زمن العار، وأبو داغر في الزعيم وغيرها من الأدوار التي خلّدته في سجل الدراما السورية والعربية نجماً لن يأفل أبداً، وسيبقى منارة للأجيال الفنيّة القادمة التي كان يرى بمن عاصرهم كوادر فنية هامة مسلحة بالثقافة والموهبة والمعرفة.