2012/07/04
حسان محمد محمود أن تشيّد صرح (كاركتر) أمرٌ نادرٌ، لأنك كي تحقق ذلك تحتاج إلى قطع مسافةٍ طويلةٍ وعرةٍ حافلةٍ بالمطبات والمنعطفات، مليئةٍ بالمعاناة، والإبداع، والنجاح. الأمر أشبه بمحاولة إشعال عود ثقابٍ وأنت تقابل مروحةً. ثم، الأكثر صعوبةً، بناء (كاركتر) كوميدي، فإضحاك غير مبتذلٍ للمبتلين بكوارث عامةٍ وخاصةٍ في أي مكانٍ ـ وتحديداً في منطقتنا ـ مهمةٌ تقارب المستحيل، إنجازٌ يمكن تشبيهه بقدرتك على إشعال عود ثقابٍ وسط عاصفةٍ، وليس في مواجهة مروحة فحسب. الفريد، والمميز هو (الكاركتر) الثنائي، إذ في حال ظهوره لا مجال للتشكيك في عبقرية مبدعه، إنه ( الكاركتر الثنائي) ثروةٌ فنيةٌ بكل معنى الكلمة، ويدل على قدرة إشعال عود ثقابٍ وسط المحيط الأطلسي، في عين العاصفة، في مثلث برمودا. ترى ما الحكمة من هدم صرحٍ فور اكتمال أركانه، وتبلور ملامحه؟ أيعقل أن تبادر إلى النفخ على عود الثقاب بعد أن نجحت في إشعاله؟ أنت، متى انتهيت من بناء بيت؛ تسكنه، ولا تهدمه. التدمير، تصرفٌ غريبٌ، عبثيٌّ، مستهترٌ، لا يقوم به حتى الطفل الذي شيد بيتاً بمكعباته، تراه خائفاً على حصيلة تعبه، وإبداعه. سلوكٌ، ينتمي بجذره إلى فلسفة أكل الذات، والتربة الثقافية التي ينهل منها هي تربة الانتحار، وسفح الدم مقابل لا شيء، هكذا... في بداية السبعينيات صادف أن قام عبقريٌّ اسمه نهاد قلعي بإنشاء (كاركتر) كوميدي ثنائي سوري (غوار ـ حسني)، وتعرفون جميعاً النجاحات التي حققها محلياً وعربياً، ومنذ تلك الفترة لم تجد علينا قرائح المبدعين والفنانين بشبيهٍ مماثلٍ له من حيث القيمة الفنية والثراء الدرامي الكوميدي البعيد عن التهريج، والإمكانات التطويرية المختزنة في طياته؛ إلى أن بزغ نجم الثنائي (أسعد ـ جودة). و الآن، سوف يقتلون هذا الثنائي، مع البيئة التي تحيط بهما، فالتلوث يصيب الجميع في مقتلٍ، بمعنى أن ثمة (مجزرة) دراميةً قادمةً، سوف تلطخ شاشاتنا، وربما تدمي قلوبنا. أية أسبابٍ تكمن وراء اتخاذ قرار الإعدام هذا؟ فالأمريكان لم يقتلوا (توم ـ جيري)، ولطالما تنادى المفكرون والمثقفون العرب وعقدوا العزم، وأعلنوا عن المسابقات لتشكيل (كاركتر) عربي مماثلٍ أو قريبٍ من نموذج (توم وجيري) أو (ميكي ماوس) لمواجهة الغزو الثقافي الأمريكي، ما يعني أن إنشاء (الكاركتر) الخاص بالثقافة المحلية الحامل لنكهتها والمختزن لجيناتها الحضارية؛ أمرٌ مرغوبٌ ومطلوبٌ، فلماذا ندمر أم الطنافس، وشخوصها؟! سوريا لم تفعل ذلك مع (غوار ـ حسني)، (لوريل ـ هاردي) لم يمت، وكذلك (صابر ـ صبرية)، (كركوز ـ عواظ).... وناجي العلي لم يقتل حنظلته في أية لحظةٍ سوداويةٍ من تلك اللحظات التي دهمته (وما أكثرها) ...ما القصة إذن؟ في ظل غياب أي تفسيرٍ، أو تبريرٍ، من قبل الكاتب أو المخرج لم يبق ـ لي على الأقل ـ سوى التكهنات، ولقد قلبتها في ذهني، فلم أجد ما يشرع هذا الإفناء والمحو (لأم الطنافس ...الفوقا). ثمة انسدادٌ في أفقٍ ما، ترى ما هو؟ من أي شيءٍ تهربون إلى الموت؟ أهي ذاتية البعض، ورؤيته الخاصة؟ ـ حسنٌ، ماذا لو ندم (القاتل) بعد فترة على فعلته؟ أم تراها الرغبة باحتكار رفد هذه الشخصيات بنسغ الوجود و الاستمرار، وجعلها ماركة مسجلةً باسم الكاتب والمخرج والشركة المنتجة؟ إن كانت خزائن إبداع الكاتب قد نضبت الآن؛ فإن هذا لا يبرر قتل هذه الشخصيات، إذ ربما تجود قريحته بعد فترة بأفكار ومواضيع جديدة، ساعتها، ما العمل؟ هل نبحث ساعة الندم عن مخارج درامية تتلافى خطيئة (القتل) ولا تحترم عقل المشاهد كما فعل آخرون؟ لم نقدم على خطوةٍ قد نضطر للتراجع عنها مستقبلاً؟ ثم ماذا عن الكتاب الآخرين، الذين يستطيعون استخدام هذه الشخصيات حاملاً لإبداعاتهم، وقالباً لأفكارهم؟ كلنا نعرف أن شخصيتي (غوار وحسني) لم ينفرد مبدعهما بالكتابة لهما، فقد تعاقب عدة كتاب على ذلك، بدءاً بنهاد قلعي وانتهاءً بمحمد الماغوط. ـ هل هي الخشية من الوقوع في مطب التكرار، و تجنب مصيدة استغلال النجاح فيما يعرف بظاهرة الأجزاء المتتالية في المسلسلات الناجحة؟ إن كان الأمر كذلك؛ فهذا أبلغ تعبيرٍ عن المثل القائل: " عذرٌ أقبح من ذنبٍ"، إذ أن فيه اعترافاً بعدم النضج، وسهولة الانقياد خلف الإغواء، والانزلاق إلى مهاوي الأجزاء الرديئة ... أين الثقة بالنفس، والرؤية الواضحة للعمل ومقوماته؟ أنت أيها (القاتل) تستطيع تحرير نفسك من إملاءات السوق الدرامي وقوانينه التي خضع لها غيرك. أنت أيها (القاتل) لست ملزماً بتقديم جزءٍ جديدٍ كل (رمضان) لتفعل ما فعله سواك. هل أنت أيها (القاتل) ـ كاتباً كنت أم مخرجاً ـ مراهقٌ مثل بقية المحيطين بك؛ حتى تخضع لإغواءٍ وقعوا فيه؟ هل أهرب من المعاصي الموجودة في الشارع بالانزواء والتقوقع في بيتي؟ وهل من قيمة للفضيلة إن لم تكن في مغالبة الرذيلة و مقارعتها، وعدم الانسياق خلف إغراءاتها؟ أيهما أصلب عوداً وأمضى في النزاهة، شخصٌ أمامه المال سهل السرقة؛ فيرفضها، أم آخر لم تقع عينه على أكوام الذهب و المال؟ حقيقةً، أرغب ـ والكثيرون غيري ـ بمعرفة الأسباب كي نناقشها، خصوصاً أن ليس هناك أي مبررٍ دراميٍّ (للمجزرة) فالمسلسل قصصه مختلفةٌ، متنوعةٌ، لكل حلقةٍ سياقها الخاص، إلا إن كان المغزى توجيه رسالةٍ تقول: بقعة النظافة الوحيدة الباقية في هذا العالم، لوثت، و لا أظن أن من الحصافة الفكرية و الفلسفية توجيه مثل هذه الرسالة المحبطة لمجتمعنا المعروف بعاطفيته وتحكمها بجزءٍ كبيرٍ من انطباعاته ودوافعه. حسبي هنا التعبير عن رأيي الشخصي، فأنا من أنصار أن تبقى (أم الطنافس...الفوقا) ضائعةً بين الجبال والغابات، مشرعةً صدرها للبحر الشاسع، على أن يدفنها التسرع تحت تراب ملوث بأنانيتنا، ورؤيتنا الذاتية، التي قد لا تُمكّن من بنى الأهرامات قبل آلاف السنوات من معرفة ما سوف تمثله للبشر في عام 2010، زاويةٌ ضيقةٌ تقصر رؤيته للهرم على أنه مجرد قبرٍ عظيمٍ لملك. بقاء (أم الطنافس ...الفوقا، وليس التحتا) ضرورةٌ، تتجاوز في حيثياتها الضرورة الدرامية لتصل إلى حد الضرورة الحضارية و الثقافية، فهل يدرك (القاتل) ما هو مقدمٌ عليه؟ ربما، هذه من المرات النادرة التي أكتب فيها مقالة و الدموع تملؤ محاجري. و لاتقولوا: شو إلنا دحاشة، نحنا ملوك الشاشة. لك هادا الجمهور مانو جلجوء و هبور. وهوي بحضي ما آبول بهالنهاية النشح، لا قولكن درخوشة للحلقة الأخيرة غير هالدرخوشة، لأنو العالم صار بوزها مقلوب متل سفل الدست، من قلة الدبار تبعكن. إي والله ما صارت لا ببلاد الإكرك ولا ببرغاليا...لك حتى بأم الطنافس التحتا ما عملوا اللي عمتعملوهني. [email protected]
هي فسحة لمقالات ضيوف البوسطة.. نقدم فيها مقالات جادة تشكل بنية لحوار طموح في شؤون الفن في سورية والعالم العربي.. ويدفعنا الأمل بمشاركة كل كتابنا الغيورين على الفن الجميل. ملاحظة: لا تعبر آراء الكتاب بالضرورة عن رأي الموقع.