2012/07/04
نجيب محفوظ يقول: أولى ملهماتي.. كانت : جامعة أعقاب سجاير نجيب محفوظ.. أديب من الصف الأول إذا أمسك القلم تحول في يده إلى مشرط ينفذ به إلى أعمق أعماق النفس الإنسانية وإذا تحدث في شيء فهو الدارس المنطقي النافذ البصيرة، وقد وضع قصصاً ممتعة وكتب للسينما وله هنا وهناك آراء صادقة... في جزيرة الشاي، والطبيعة من حولنا تبتسم، والماء تحت أقدامنا مرآة صافية تهتز فيها صور الأشجار والعشاق، في جزيرة الشاي، بحديقة الحيوان التقينا. قال نجيب محفوظ: عندما تخرجت في كلية الآداب، قسم الفلسفة عام 1934، لم أكن أفكر على الإطلاق في أن أكون أديباً.. ولكنني كتبت في الفترة ما بين 1934 و 1937 عدة مقالات في الفلسفة، لأنني كنت أحضر لرسالة الماجستير والدكتوراه.. وفي غضون عام 1937، ولست أدري كيف.. قلت لنفسي: لا بد أن أكرس كل حياتي للأدب، وبدأت بالقصة القصيرة، كتبت فيها حوالي مائة، ثم اتضح لي أن الأقصوصة شيء مركز يتضمن في أكثر الأحيان كل عناصر القصة الطويلة... وبحثت فيما كتبت فوجدت أنني أستطيع أن أحول تسعين أقصوصة من المائة إلى قصص طويلة، ومن هنا قررت أن أكتب القصة الطويلة. وسكت نجيب محفوظ قليلاً ثم قال: هناك شيء يجب أن أعترف به، إن سلامة موسى هو الرجل الذي أدين له بالفضل في حياتي الأدبية، لقد كنت أذهب إليه وأنا طالب صغير أكتب لنفسي، كنت أذهب إليه في بنطلون قصير وأنتزعه من بين زوجته وأولاده فيأخذ مني كراسة كاملة، ويقرؤها ويناقشني فيما كتبت، ويقول لي دائما: (استمر!..) وقد قضيت عامين أتردد على بيت سلامة موسى، وهو يبشرني دائماً بأنني أتقدم، ويقول لي أن في بذرة لم أكشف عنها بعد! ونشر لي سلامة موسى أول قصة لي وهي (ملوك تحت الأرض) في مجلته التي كان يسميها (المجلة الجديدة) هذا في الأدب. أما في الفلسفة فقد نشر لي بحثاُ عن الله استغرق عامين! وسألت نجيب محفوظ: وماذا كان موضوع قصتك القصيرة الأولى؟ جامعة أعقاب سجائر تبحث عن أبيها فتجده في طرف من أطراف القاهرة حيث لا يصل رجال البوليس، يدير عصابة لتجارة المخدرات.. والقصة بعد هذا تصوير لانفعالات المسكينة بين أبيها وأعوانه المردة! وماذا بعد هذا؟ سأكمل اعترافي.. أقول أن سلامة موسى صاحب فضل علي، وأضيف أنه أول من نادى بالفكر التقدمي.. كان هذا من ربع قرن... وهو أحد قلائل أسلسوا قياد اللغة العربية وجعلوها لغة طيعة تواجه حاجات العصر والعلم بل لا أبالغ إن قلت أنه عمل فيها أكثر مما عمل الجاحظ في زمانه.. وإني لأتساءل بعد هذا: كيف لا يستعين المجمع اللغوي بهذا الرجل العظيم؟ وما أول قصة طويلة لك؟ (عبث الأقدار)... وقد نشرها لي سلامة موسى أيضاً. من هم أبطال قصصك، وما مدى الخيال، وما نصيب الواقع فيها؟ أبطال قصصي أناس ممن تراهم العين كل يوم، آدميون، ينفعلون ويثورون ويضحكون ويضيعون في زحمة الحياة، قد يكونون معي في البيت أو قبالتي في السكن، أو جواري في المكتب.. وقد يكونون في حانوت أو طريق. وأنا آخذ من الواقع وأنسج عليه من الخيال، فإن العمل الفني ليس أن تعطي الواقع كما هو بل أن تأخذه وتهضمه وتبلوره في أعماقك ثم تخرجه من جديد خلقاً آخر. هل أعرت شخصيتك لبطل من أبطال قصصك؟ أعرت نصف عقلي لأحد أبطال قصتي (بين القصرين)، وقد ندمت على ذلك أشد الندم، فإن الروائي في ملتي لا يصبح روائياً إلا إذا تحدث عن الآخرين.. خلال نفسه، أما أن يعطيهم نفسه فلا... هل حياتك قصة حب، وهل قرأناها لك في كتبك ونحن لا ندري؟ لا تخلو حياة من قصة حب، وفي قصتي (بداية ونهاية) قصة حب فيها ملامح من قصة وقعت لي! ولماذا لم تتزوج؟ شرعت منذ زمن قديم في هذا المشروع، ولكن ظروفي لم تسمح لي به آنئذ، وقد ظللت على التسويف حتى وصلت إلى سن أعتقد فيها أن الزواج قد فات أوانه... هل تعتقد أن للزواج أو العزوبية أثر في إنتاج الأديب؟ كلا.. وإذا نظرت إلى تاريخ العباقرة من الكتاب والأدباء لوجدتهم مزيجاً من المتزوجين والعزاب، ولو كان الزواج يعطل العبقرية مثلاً.. لهلكت البشرية، على أنني أعتقد أن الرجل خلق ليتزوج، وبعد هذا يتحكم الحظ في إنتاجه فقد يسعده الله بزوجة تزيد هذا الإنتاج وتكون ملهمته، وقد يبتليه بزوجة تصرفه عنه.. إليها! يردد كثير من الأدباء عندنا أنهم لا يتعاونون مع السينمائيين لأن الأخيرين يشوهون عمل الأدباء.. لا يخرجون قصصهم بالصورة التي يريدوها.. فإذا أخذت صفة القاضي فكيف تفصل في هذه الدعوى؟ أحب أن أقول أن الأدباء عندنا لا يكتبون قصصهم للسينما، بل يكتبونها للقراء، والذي يقرأ ويلتذ له القارئ يختلف كثيرا عما يقدم على الشاشة، فإذا ما تصرف السينمائيون في إنتاج الأدباء الذي أعد من قبل لغير السينما، فإنه تصرف تقتضيه طبيعة الحال.. ولكي نزيل شكوى الأدباء أطالب بأن يشركهم المخرجون معهم في إعداد القصة للسينما حتى يتم كل شيء بعلمهم فلا يصرحون بعد إخراج الفيلم بأنه ابن غبر شرعي لهم.. وبذلك يتاح للسينما أن تكسب الكثير من القصص الموجودة في السوق والصالح للسينما بعد تعديل طفيف. ما هي قصصك التي كتبتها للسينما؟ كتبت للسينما خصيصاً (مغامرات عنتر وعبلة)، وقد صادف قدراً محدوداً من النجاح لأنه كان مسبوقاً بفيلم (عنتر وعبلة) والجمهور عندنا لا يحب الفكرة التي تعتبر استطراداً لفكرة أخرى. وكتبت (فتوات الحسينية) و (جعلوني مجرماً) و (النمرود)، وأنا اليوم أقوم باقتباس من قصة (جين اير) لشارلوت برونتيه.. وقد قلت أنني كتبت للسينما خصيصاً لأن السينما لم تأخذ قصة واحدة مما كتبت في كتب، وقد حاول بعض المخرجين إخراج (القاهرة الجديدة) و (خان الخليلي) و (زقاق المدق) ولكنهم فشلوا لأن الرقابة اعترضت على هذه الكتب، لما فيها من جرأة في معالجة المواقف المختلفة. تقول أنك اقتبست من (جين اير).. فهل تقر بالاقتباس؟ نعم أقره بشرط أن يكون شريفاً، بشرط أن يعلن عنه ويتم في وضح النهار، إن الذي لا أقره هو السرقة، هو(اللطش) الذي جعل سوق المؤلفين رخيصة في مصر، فإن المنتج يفضل الفكرة المسروقة – لأنها رخيصة عادة– على العمل الفني الأصيل.. وأقرر هنا أن القصة المصرية الصميمة لن توجد، لن تبرز إلى الوجود إلا إذا منعت الدولة السرقة منعاً باتاً، يجب أن يقفل بابها وتجري عملية تقييم للمؤلف المصري الذي يتقاضى اليوم من عمله أقل القليل. هل أنت راض عن السينما المصرية؟ في حدود إمكانياتها القائمة تبذل السينما المصرية جهوداً موفقة، ولست أعيب عليها إلا ضعف القصة والسيناريو، ويمكن للسينما أن تتلافى هذا العيب إذا سخت على المؤلفين ونبذت القصص المسروقة، ولكنا إذا تحدثنا عما يجب أن تكون عليه السينما لوجب أن أقول لك إنها في حاجة إلى استوديوهات كبيرة مزودة بالمعدات الحديثة، مزودة بالفنيين المثقفين في البعثات والمعاهد ومزودة بالمنتجين الذين يعرفون كل دقائق عملية الإنتاج. والسينما في حاجة إلى التشجيع من الدولة ممثلاً في تبادل الأفلام، أو في اشتراط نسبة في التبادل لفتح أسواق جديدة أمام الفيلم المصري. تقول أن الرقابة منعت إنتاج قصصك، والذي نعلمه أن عملك اليوم له اتصال بالرقابة وأنت عضو تحكيم فيها إذا ما اختلف الرقباء على فيلم، فهل تعتقد أن الرقابة الحالية سليمة؟ الرقابة شيء غير محدود.. إنها تطالب بأن تراعى الأخلاق والنظام العام وأمن الدولة... وهي تتزمت تزمتاً يعاني منه السينمائيون مر العناء، ولكي تصلح الرقابة يجب أن تطعم عقلية الرقيب بروح الأديب، وأن تتمكن السينما من أداء رسالتها النقدية والاجتماعية في أوسع الحدود المباحة، وهذا يستلزم عملية تجديد شاملة، إننا نريد الخروج بالقصة المصرية عن محيط (البلطجي) والعزول والفتاة البريئة.. نريد أن نواجه الحقائق بشجاعة.. وإذا راجت الواقعية في مكان ما، فهي دليل على أن أهل هذا المكان قد نضجوا.. يجب أن نتحرر من مرحلة أحلام اليقظة ونجدد الرقابة ونجدد الفهم وتواجه الواقع... ما رأيك في حال المسرح المصري؟ حال لا يسر فإن المسرح المصري يمر بأزمة يرجع سببها الأساسي إلى ظهور السينما قبل أن تتكون عقلية مسرحية عامة، وإذا نظرنا إلى أوربا لوجدنا أن السينما أثرت في المسرح هناك ولكنها لم تستطع القضاء عليه لأن فيها مناعة ثقافية، ولكي تخلق العقلية المسرحية يجب أن نشجع المؤلف فيزداد الإنتاج، ونقلل تكاليف دخول المسرح. وفي اعتقادي أن المسرح المصري لن يموت، أنا متفائل له لأن عندنا عدد كبير من الفنانين والفنانات يتمسكون به رغم كل شيء، وقد بدأ المجلس الأعلى للفنون يعتني به، وأنا أنظر إلى المستقبل دائماً على ضوء أن التعليم يزيد والجهل يقل.. وبناء عليه فالأمل كبير في أن تتكون المناعة الثقافية والعقلية المسرحية العامة. هل تعجبك الإذاعة؟ الإذاعة تقدمت وتنوعت ولمسنا فيها نهضة كبيرة، ولكني أطالبها بعناية أدق فيما تذيعه عن الأدب عامة، لأن لها في التأثير مجالاً كبيراً، يمكن لها أن تكون الذوق القصصي أكثر من أي شيء في الدنيا. وما رأيك في الأغنية المصرية؟ إن سيد درويش وتلميذه زكريا أحمد قد قالا الكلمة الأخيرة في الأغنية المصرية الصميمة، ونحن مقبلون على مرحلة التعبير عن الروح المصرية تعبيراً عالمياً، ولكن قبل الوصول إلى هذه المرحلة لا بد من فترة اقتباس وتمصير في الموسيقى – وهي فترة ضرورية وجوهرية اجتازتها من قبل القصة والمسرح – والعصريون من الموسيقيين قد قاموا بهذا الدور خير قيام وعلى رأسهم عبد الوهاب.. وليس الاقتباس والتمصير بعيب إنما العيب هو عدم الاعتراف بالعمل الفني الذي نستقي منه.. الذي نقتبس منه. إن المنفلوطي عندما ترجم لكبار أدباء الغرب قال إنهم أصحاب الفكرة، ولم يجد في ذلك عيباً أو إنقاصا لقيمة عمله الفني.. إن عبد الوهاب الذي بلغ بالمدرسة الحديثة ذروة الجمال يحسن صنعاً لو اتبع أسلوب المنفلوطي. من من المخرجين المصريين أعجبك؟ أعجبني ثلاثة هم: صلاح أبو سيف لأنه يتذوق الأدب وينفذ إلى الواقعية، وأحب أن أقول أن الواقعية ليست ما يدعيه بعض المخرجين من الخروج إلى عرض الطريق للتصوير فيه، ليست واقعية بل مادية، بل واقعية معنى.. مشاعر وأحاسيس.. وصلاح أبو سيف أمل السينما المصرية في الواقعية التي يحبها الجمهور. ويعجبني نيازي مصطفى، وأقول عنه أنه أحسن مخرج حركة، ومجال فهمه أوسع من مجال عمله، وهو في رأيي لم يأخذ حتى اليوم فرصته كاملة، وحساسيته الفكاهية يقظة ومتحفزة. والثالث عندي عاطف سالم، لأنه مخرج عاطفة وجمال ورومانتيكية. ومن أحسن الممثلات والممثلين؟ من الممثلات فاتن حمامة، خصوصاً بعد أن خرجت عن دائرة البنت البريئة، وأحسن الممثلين عبد الوارث عسر في العظة بعد الريحاني. وما الذي يشغلك الآن؟ هل في يدك قصة تكتبها؟ كلا.. أنا أقرأ ما عندي من كتب.. اليوم بالذات أقرأ كتاب مباهج الفلسفة وألوان من قصص من الشرق والغرب، وأجتاز أيضاً مرحلة ركود ذهني، وقد بدأ الركود بعد أن انتهيت من قصة (بين القصرين)، فإنني أحس بفراغ أعتبر الثورة المصرية مسئولة عنه.. فإن إنتاج جيلنا رد فعل للاستعمار والإقطاع، وقد زالا فجأة فذهب الضغط عنا، وهذا رد الفعل وربما كان هذا نهايتي كأديب، أو ربما كان مقدمة لتطور لا أدريه. هل أنت متفائل؟ نعم متفائل.. أن العلم سيجعل الإنسانية تواصل تقدماً غير محدود مهما كان باهظ الثمن.. وسيشبع العلم كل نزعات الإنسان الشريف للحق والخير والجمال، لأنه أصبح الآن في خدمة الشعوب، بعد أن كان قبلاً قاصراً على خدمة الاستعمار ورؤوس الأموال. الكواكب شباط 1957.